من المتوقع أن يخرج عدد من السياسيين والإعلاميين من جحورهم، ليس ردا للاعتبار فقط، لكن أملا في استعادة العافية الكاملة، خاصة أن نظام الحكم الحالي ليست لديه ممانعات مقنعة في حجبهم.
من يتابع الشأن المصـري عن كثب يعرف أن كلمة “أرامل” لها مضمون سياسي، بخلاف المعنى الاجتماعي المتعارف عليه، وصُكت أصلا للتدليل على أن هناك مستفيدين من الناحية الاقتصادية والسياسية، وخسروا من يقدم لهم الدعم، بل فقدوا عائلهم الذي وفر لهم أنواعا مختلفة من المساعدات.
الكلمة شاعت، عقب رحيل الرئيس العراقي صدام حسين، فوُصف من كانوا يؤيدونه بـ“أرامل صدام”، وجرى الترويج لها بعد انتهاء مدة الرئيس الأميركي جورج بوش (الابن) وتردد لفظ “أرامل بوش”، للتأكيد على حجب المساعدات المادية التي كانت تقدم للبعض، بذريعة دعم الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني.
في هذا السياق انتعشت أيضا كلمة “المارينز المصريين” في زمن تزايدت فيه أعمال إنزال مشاة البحرية خارج الأراضي الأميركية، وتم وصف كل من يدافع عن التوجهات والسياسات والإجراءات الأميركية في المنطقة، أنه “مارينز”.
حرب المصطلحات والمفردات التي تحمل دلالات سياسية وتـروق لقطاع كبير لم تتـوقف لحظة، فبعد اختفاء “أرامل صدام” و“أرامل بوش” و“المارينز المصريين”، سطع نجم “أرامـل مبارك” نسبة إلى مـؤيدي حسني مبارك الرئيس المصـري الأسبـق، الذي أطاحت به تداعيات ثـورة 25 يناير 2011، وبدأ هؤلاء يدشنون حملات على مـواقع التواصل الاجتماعي، تحت لافتة “آسفين يا ريس”، في محاولة لإعادة الاعتبار للرجل، وكلما أخفقت ثـورة يناير 2011 في تحقيق أهدافها، ازداد صوت مؤيدي مبارك ارتفاعا.
الفشل المتكرر في تحقيق إنجازات ملموسة على الأرض، بما يُحسّن حياة المصريين ويخفف عن كاهلهم المتاعب والأزمات المتراكمة، صبّ في خانة أنصار مبارك، الذين لم يثنهم صدور حكم قضائي بالسجن مدى الحياة بتهمة قتل المتظاهرين في أحداث ثورة يناير، وقامت كتيبة من المحامين وخبراء القانون بالدفاع عنه، حتى أعيدت المحاكمة مرة أخرى، والخميس الماضي أصدرت محكمة النقض (أعلى محكمة في مصر) حكما نهائيا ببراءة مبارك من تهمة قتل المتظاهرين.
الحكم يقال في مصر إنه “عنوان الحقيقة”، لكن كثيرين اعتبروه مخالفا للحقيقة، لأن هناك اعتقادا جازما في وجدان فئة كبيرة من المصريين، أن الرئيس الأسبق أعطى لجهاز الشرطة أوامره بالقتل، وراح ضحيتها نحو ألف قتيل وستة آلاف جريح من المتظاهرين.
المثير في هذا المضمار أن حبيب العادلي وزير الداخلية وكبار مساعديه إبان حكم مبارك، حصدوا أحكاما عدة بالبراءة، كما حصل غالبية الوزراء والمسؤولين، الذين اُتهموا في قضايا فساد متعددة، على البراءة أيضا، بينما لا يزال عدد كبير ممن شاركوا في تظاهرات لاحقة على سقوط نظام مبارك قابعين في السجون.
الدخول في تفاصيل أحكام القضاء، بالسجن أو البراءة، يشبه المشي وسط حقل ألغام، لأن القوانين في مصر مليئة بالتعقيدات والثغرات، التي تمنح (أحيانا) فرصة للتحايل عليها وبالقانون، والأدلة المادية هي الفيصل، وكانت هذه واحدة من الأدوات التي ساعدت الكثيرين من معاوني مبارك على نفي التهم التي وجهت إليهم، لأن معظمها تم تدميره، وانتشرت في أوساط المصريين العبارة الساخرة “مهرجان البراءة للجميع” على وزن “مهرجان القراءة للجميع” الذي تبنته سوزان مبارك حرم الرئيس المصري الأسبق.
على مدار السنوات الثلاث التالية لثورة يناير، اختفى تقريبا أنصار حسني مبارك من المشهد العام، وكان ظهورهم يتم على استحياء في بعض المنابر السياسية والإعلامية، ومعظم من سُلطت عليهم الأضواء، نسبيا، لم تكن عليهم تحفظات كبيرة من قبل الكثير من المواطنين، لكن عقب ثورة 30 يونيو 2013 بدأ مؤيدو مبارك في المزيد من الظهور المنظم، واعتبروا الثورة التي أطاحت بحكم الإخوان ردت إليهم الاعتبار، وتخيل بعضهم أنهم مُفجروها، وتصوروا أنها دليل على العودة إلى الزمن الغابر.
استفاد هؤلاء من زيادة نطاق حدة الإخفاقات السياسية والأزمات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية، وأصبحت عبارة “زمن مبارك أفضل” انعكاسا لحالة عارمة من الإحباط سادت وسط المواطنين، راهنوا على الرئيس عبدالفتاح السيسي لتغيير حياتهم المعيشية للأفضل، لكن حدة الأزمات كانت أكبر من أن تُحل بسهولة، ولم تستطع النخبة المصرية، بمختلف تنويعاتها، المساعدة في تجاوز الكثير من العقبات، وتصاعد الأمر لدرجة تكرار الحديث حول حنين الناس إلى زمن مبارك.
في ظل انعدام الخبرة لدى طبقة كبيرة من المصريين تصدرت المشهد العام عقب الثورة، زادت نسبة الفشل في علاج المشكلات، واتسع نطاق الاستعانة بخبرات من تقلدوا مناصب سابقة في عهد حسني مبارك، ورأينا وزراء عملوا إلى جوار مبارك ونجله جمال يعملون أيضا في عهد السيسي، وعاد صحافيون إلى صـدارة الإعـلام، ومن اضطروا إلى تغيير جلودهم السياسية في وقت من الأوقات بالهجوم على مبارك أو الصمت التام حيال عصره، لم يتورعوا الآن عن عزف سيمفونية تكيل المديح له ولنظامه.
حصول مبارك على حكم بالبراءة من تهمة قتل المتظاهرين، سيمثل نقطة تحول كبيرة، لأنه منح أنصار مبارك أيضا حكما بالبراءة السياسية، من أخطر تهمة وجهت له، مع أن مبارك حصل على حكم بالسجن لمدة ثلاث سنوات في القضية المعروفة بـ“القصور الرئاسية”، وأُدين بالفساد والتلاعب في تكلفة عملية تجديدها.
القيمة المعنوية التي حملها الحكم في جريمة قتل المتظاهرين عظيمة، ويحاول مؤيدو مبارك استثمارها لكسر الحاجز النفسي مع عموم المصريين، الذين رأوا في مبـارك “مجـرما”، وإن تجاوز بعضهم الأزمـات التي شـاعت في زمنه، لكـن كثيرين لم يتمكنـوا من عبور نقطـة القتـل العمد، التي حجبت تعاطف نسبة كبيرة من المواطنين معه، وحالت دون الصفح عنه سياسيا.
الحكم الأخير، الـذي يسمح لمبارك بالعودة إلى منزله، وترك المشفى – السجن الذي يقيم فيه منذ الحكم عليه بالسجن مدى الحياة وإدانته في قضية “القصور الرئاسية” والتي انتهت مدتها، له أهمية كبيرة عند أنصار مبارك، لأن تسربهم تدريجيا في مناحي الحياة السياسية كان يتم على استحياء، وكأن النظام الحالي يرتكب جريمة.
الآن رُفع تماما الحجاب أو “الفيتو” الذي كبل بعض الجهات الرسمية من زيادة الاستعانة بمؤيدي مبارك في مجالات مختلفة. لذلك من المتوقع أن يخرج عدد من السياسيين والإعلاميين من جحورهم، ليس ردا للاعتبار فقط، لكن أملا في استعادة العافية الكاملة، خاصة أن نظام الحكم الحالي ليست لديه ممانعات مقنعة في حجبهم، بحجة أن بينهم العديد من الكفاءات.
غير أن المشكلة تكمن في زيادة حضورهم، إذ قد تؤدي إلى اتساع نطاق المشكلات، فلا يزال هناك طيف سياسي مؤثر لن يغفر لمبارك وأعوانه ما ارتكبوه من جرائم في حق الشعب المصري، وهنا مكمن خطورة التمادي في العودة للصدارة.
نقلا عن الأهرام