7 أبريل، 2024 11:44 ص
Search
Close this search box.

عواصف البياض وأحضان الشرق الدافئة

Facebook
Twitter
LinkedIn

من نافذة الطائرة المتجهة من مسقط إلى باريس ، فإنّ أكثر مشهد يلفت الأنظار، مع دخولها الأجواء الأوربيّة ،إذا كانت الرحلة نهاريّة ، كما هو الحال مع رحلتي ، منظر البياض الذي يطرّز قمم السلاسل الجبليّة ، ولا يفصل بينها، والنظر سوى أكداس الغيوم التي تسير كقطيع أغنام بيض ،كان ذلك المنظر ساحرا بالنسبة لمن نشأ ، وعاش في منطقة استوائيّة حارّة ، فجأة خطر ببالي الطيّار الفرنسي الكاتب انطوان دي سانت اكزوبري ، وبخاصّة كتابه ” أرض البشر ” الذي يقول به “إن الأرض تفيدنا عن أنفسنا أكثر مما تفيدنا كل الكتب، ذلك أنها تقاومنا” ويتحدّث به عن رحلاته ، ويذكر حادث هبوط اضطراري حصل له في منطقة جبليّة تغمرها الثلوج ، ومعاناته ، من البرد ، والجوع ، وحتى العطش ، خلال تلك الأيّام التي أمضاها ضائعا ، يتشبّث بأمل واهٍ للنجاة ، حتى العثور عليه من خلال عمليات البحث التي كان يجريها رفاقه ، ومن المفارقات إن اكزوبري ، فقد حياته في رحلة أخرى عام 1944 ،وانقطع خبره ، ولم يتمّ العثور على رفاته إلّا عام 1988 م على الساحل الفرنسي قبالة مرسيليا حيث سقطت طائرته بعد هبوب عاصفة ثلجيّة ، واصطدامها بأحد الجبال الثلجيّة ، أبعدتُ عن بالي المصير الذي آلت إليه طائرة اكزوبري ، وواصلت استمتاعي بما أشاهد من مناظر طبيعيّة جميلة ، تتوشّح بالبياض الذي يظل بالنسبة لنا رمزا للنقاء، والصفاء ، حتى بدأ الظلام يحجب الرؤية ، ولا يستطيع الناظر أن يرى سوى ظلال شاحبة لجبال بعيدة غارقة في بحر الوجود الذي يبدو لا نهائيّا ، أغلقت عينيّ ولم أفتحهما إلّا بعد أن أعلن قائد الطائرة عن قرب الوصول إلى  مطار “تشارل ديغول ”  ، وما أن بدأت  الطائرة بالهبوط ، حتى تحوّل سحر  المشهد الذي كان يبهرني في الأعالي  إلى واقع ثقيل ، ففي مثل هذه الأيّام التي تشهد تساقط الثلوج يكون الاستنفار العام في المناطق التي تشهد هبوب العواصف الثلجيّة في أقصى حالاته ، خشية وقوع حوادث سير ، وتدهور مركبات بسبب تزحلقها ، لضعف احتكاك إطاراتها بالأسفلت ، لذا تفرض بعض الدول الأوروبيّة التي تشهد  تساقط الثلوج بكثرة على سائقي المركبات أن يضعوا لمركباتهم إطارات خاصّة تقاوم الإنزلاق كما هو حاصل في السويد ، والنرويج ، والمانيا ، وفنلندا ، والدنمارك ، أمّا في فرنسا ، فالأمر متروك لأصحاب المركبات ، لذا حين واجهتنا عاصفة ثلجيّة ، أنا وصديقي “عبدالعزيز النجدي” الذي كان يقود المركبة ، في طريقنا لبلجيكا ، أحسستُ بحالة الإرتباك التي داهمته ، خشية الإنزلاق ، وبالفعل حصل إنزلاق أكثر من مرّة رغم سيره البطيء ، ومهارته في القيادة، وكانت مركبات الخدمة التي تكشط الثلوج قبل تراكمها ،وترشّ الملح لتساعد على إذابته، تمارس عملها بنشاط ، رغم إنّها كانت تعرقل حركة المرور بسبب بطء حركتها ، لكنها كانت تعطي شعوراً بالإطمئنان ، وشيئاً ، فشيئاً ، بدأ سحر البياض الذي يفرش مناديله على قمم الأشجار، والشوارع، والبيوت، وزجاج المركبات ، والحشائش، يتراجع إزاء الخطر المحدق الذي يسبّبه ، والذي يصل إلى درجة أن يسبب تجمّد الأطراف ، والإصابة بـ”الغنغرينا ” فيسارع الأطبّاء إلى بتر العضو المصاب سريعا ، ومثلما ينصح الظمآن بشرب الماء على شكل جرعات ، فإنّ على الذي يتعرّض للإنجماد أن يتدفّأ بلفّ العضو المنجمد ببطانيّة ليفقد البرودة شيئا ، فشيئا ، ويكون الإرتماء بين حضن ً دافىءعلاجاً ناجحاً لمثل هذه الحالات ، وإذا لم يحصل سيء الحظّ الذي يحدث له مثل هذا الإنجماد ، عند عاصفة ثلجيّة ، فإنّه سيكون في حالة خطر محدق !

هذا الخطر الذي رصده اكزوبري في “أرض البشر” وهو يقول” في الثلج يفقد المرء غريزة الحفاظ على الذات فقداناً تامّاً ” كفيل بأن يجعلنا نحلم بأحضان شمسنا الدافئة ، وإن كان ذلك الدفء حارقا أيّام الصيف بخاصّة في منطقة ملتهبة كمنطقة الخليج لدرجة تجعل سكّانها يحلمون بالبياض الذي لا يخلو من شرّ!

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب