تحدث رئيس الوزراء عادل عبد المهدي اخيرا، امام اعضاء مجلس النواب، عن اكثر من اربعين ملف للفساد، شمل كل ركن وزاوية في مؤسسات الدولة ومرافقها المختلفة، ووضع لكل ملف عنوان : تهريب النفط، العقارات، المنافذ الحدودية، تهريب الاموال، الكمارك، تهريب الذهب، السجون ومراكز الاحتجاز، تجارة الحبوب والمواشي، التهرب من الضرائب، الاتاوات والقومسيونات، تهريب العملة، ملف التقاعد، المخدرات، ملف الشهداء، التجارة بالاعضاء البشرية، تجارة الاسمدة والمبيدات، تسجيل السيارات، التجارة بالعملة الاجنبية، بيع وشراء السيارات، الاقامة والسفر، الادوية، سمات الدخول، البطاقة التموينية، الرعاية الاجتماعية، الكهرباء، التعينيات وبيع المناصب، تهريب الحديد والسكراب، الامتحانات وبيع الاسئلة، القروض المالية والسلف بدون غطاء، الاتصالات والتلفونات وشبكات الانترنيت، ملف النازحين. وكان الرجل قد اعلن قبلها عن فقدان 300 مليار دولار من خزينة الدولة خلال سنين الاحتلال. اي بمعدل 20 مليار دولار سنويا.
لو حدث مثل هذا الفساد او اقل منه بكثير في اي بلد، مهما بلغت حكومته من صلافة واستهتار لحزمت حقائبها وولت الادبار، اما خوفا من العقاب ومصادرة الاموال المسروقة، او هربا من عقاب الناس. حيث كل ملف من هذه الملفات يشير الى وزارة معينة في الحكومة، لكن ماحدث عكس ذلك تماما. حيث لجات الكتل والاحزاب الطائفية المتهمة الاولى بالفساد، والتي هي عماد الحكومة والبرلمان، الى استخدام الهجوم كخير وسيلة للدفاع، فاتهموا زميلهم في المهنة عبد المهدي بالتقصير في محاربة الفساد والقضاء عليه، مستغلين في ذلك ما يمتلكون من اسلحة فتاكة، والمتمثلة في المليشيات المسلحة، ودعم المحتل الاجنبي، وتعويذة المرجعيات الدينية، ناهيك عن الحصين المنيع الذي يتمترس هؤلاء خلفه عند الشدة، وهو القضاء العراقي، حيث جرت السيطرة المطلقة عليه، وخصوصا على رئيسه مدحت المحمود، ومن ثم تادية واجبه من خلال منح صك البراءة لكل من توجه له تهمة مفضوحة لا يمكن التستر عليها، وقد نجد نموذجا صارخا عنها، في منح البراءة الى رئيس البرلمان السابق سليم الجبوري والنائب محمد الكربولي والنائب بهاء الاعرجي ووزير المالية السابق هوشيار زيباري من كل التهم التي وجههت لهم علنا والموثقة بالادلة القاطعة والشهود والتسجيلات الصوتية، بل وتقديم الاعتذار لهم من الازعاج، على الرغم من ان جلسات التحقيق لم تستغرق سوى بضعة دقائق؟ في حين كانت تجري محاكمة موظف مرتشي او بائع متجول ؟
هذه ليست المرة الاولى التي يخرج فيها رئيس حكومة او نائب ليعلن عن مثل هذه الملفات، فقد فعلها من قبله رؤساء الحكومات السابقة، لتنتهي هذه الملفات فوق الرفوف العالية ليعلوها الغبار، حيث الهدف من عرض هذه المسرحية المملة هو ذر الرماد في العيون، على امل احتواء الاستياء الشعبي الذي بات ينذر بانتفاضة عارمة في اي وقت. ومع ذلك دعونا نحسن الظن هذه المرة برئيس الحكومة ونغفر له سيئاته، ونسال، كيف له معالجة هذه الملفات في ظل حكومة هي فاسدة اصلا، وبرلمان مزور على رؤوس الاشهاد، وقضاء مرتشي؟ كيف يمكن له معالجة امر خطير بهذا الوزن في ظل الدولة التي تحولت الى دولة مليشيات مسلحة تعيث في ارض العراق فسادا نهارا جهارا؟ ثم من سيحاكم من، والكل يحتفظ بملف فساد ضد الاخر؟ الم يؤكد هذه الحقيقة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي حين هدد بكشفها ردا على محاولة سحب الثقة منه؟ الم يسير على خطاه حيدر العبادي بعد ان فقد الامل بولاية ثانية؟ الم يرد عليهم الاخرون بقوة ويهددوهم بما تيسر لهم من ملفاتهم السوداء؟
نعم ستنام هذه الملفات فوق الرفوف العالية، كما نامت من قبلها ملفات الفساد الاخرى، وقد اثبت عادل عبد المهدي نفسه هذه الحقيقة. فبدل ان يفي بوعوده التي قطعها على نفسه بعد تسلمه رئاسة الحكومة بمحاربة الفساد، وتقديم المفسدين الى المحاكم العادلة، واسترجاع الاموال المسروقة، والقيام باجراء اصلاحات جدية في العراق. خرج علينا بملفات جديدة اشد فسادا واكثر انتشارا. وهذا امر طبيعي ففي العراق، كما اثبتت الوقائع العنيدة، لا تسير الامور وفق قانون الجريمة والعقاب، وانما تسير وفق عنوان اسميه الجريمة والثواب، لان الحاكم في العراق، وبكل بساطة، لا ينال العقاب جراء جريمة ارتكبها، وانما يستحق الثواب عنها، بل كلما زادت جرائمه تضاعف ثوابه، فاذا كان غنيا يصبح مليونيرا، والمليونير يغدو مليادير، والمدير يرتقي الى مدير عام، والوزير قد يكون رئيس وزراء وهكذا. اما نوع الجريمة فلا تسال عنها فجميعها مسموح بها لحكام العراق.
اما الطامة الكبرى، فان هذا الفساد المستشري لم يكن وليد الصدف السيئة، وليس بسبب عدم كفاءة او نقص في الذمة او خلل في الضمير، كي يامل الناس في استبدالهم او اقصائهم او محاكمتهم، كما لم يكن سببه الجشع والطمع كي تجري المراهنة على اكتفاء هؤلاء بما جنوه من اموال طائلة، وانما كان نتيجة لمخطط مدروس بعناية فائقة من قبل المحتل، كحلقة هامة من مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا، وان هؤلاء الاشرار قد جرى انتقائهم بدقة ايضا لتنفيذ هذا المخطط الغادر، ومنع اية محاولة شعبية لاسقاطه. وهذا ما يفسر لجوء هؤلاء الى اتباع كل الوسائل لاشغال العراقيين من خلال افتعال حروب طائفية واهلية، او تقسيم فئات المجتمع بين مسلم ومسيحي وصابئي، او شيعي وسني، او تقسيم المجتمع الى مكونات، مثل كرد وشيعة وسنة، على العكس تماما حين كان الناس يتبهاون بالوحدة الوطنية والاعتزاز بالهوية العراقية والانتماء للوطن، والاخوة والعيش المشترك الخ. ليس هذا فحسب وانما لجا هؤلاء الى انتهاج سياسة تجهيل المجتمع وحرمانه من المعرفة والتعليم، الامر الذي لا يؤهله للمطالبة بحقوقه المشروعة، او من مراقبة السلطة ومحاسبتها.
هذا ليس استنتاجا او تحليلا سياسيا او رجما بالغيب، وانما يستند الى السجلات السوداء للحكومات السابقة دون استثناء. وبحسبة بسيطة، او حسبة عرب كما يقال، فقد اثبت هذه الحكومات المتعاقبة عدم جدواها، وعدم قدرتها على محاسبة اي فاسد او اقالة اي سارق، او تقديم اي متهم الى المحاكم المختصة، بالمقابل عجزت هذه الحكومات عن تحقيق اي منجز سياسي او اقتصادي او خدمي لصالح العراقيين، بالمقابل فقد وقفت موقفا حازما ضد الاخلال بمعادلة المحاصصة الطائفية والعرقية ورفضت اي تعديل في الدستور، وجعله دستورا وطنيا يمثل الاطار العام للدولة الذي يحدد هويتها، وشكل النظام فيها، وينظم سلطاتها العامة، ويرسم العلاقات فيما بينها، ويضع الحدود لكل سلطة على حدة، ويعين الواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويحرص بالمقابل على ضمان استقلال البلد وسيادته الوطنية ووحدة اراضيه ويحافظ على ثرواته الطبيعة، وليس دستورا ملغوما يشجع على الطائفية والعرقية وعلى تقسيم العراق الى دويلات، على الرغم من اعترافهم بان الدستور كتب باللغة الانكليزية اولا، ثم تمت ترجمته الى العربية مع بعض التعديلات لصالح هذه الجهة او تلك؟ هذه هي الحقيقة ومن يعتقد بغيرها، فهو اما ساذج سياسيا، او له مصالح حزبية او فئوية ضيقة.
الجانب المضيء في هذه الصورة السوداء، هو ادراك عموم العراقيين لهذه الحقيقة، والتخلي عن كل مراهنة على الاصلاح في ظل هؤلاء، ولجوءهم بدلا عن ذلك الى طريق التظاهرات والانتفاضات الشعبية التي كللوها بشعارات تدين الفساد وتسمي رموزه وتتوعدهم بالعقاب، بل وصلوا الى قناعة بان الحل هو التغيير الشامل وباية طريقة متاحة. ولا يغير من هذه الحقيقة تراجع التظاهرات او الانتفاضات، فهذه قد حدثت جراء الة القمع الوحشية التي استخدمتها المليشيات المسلحة، ليس ضد التظاهرات فحسب، وانما ضد اية محاولة متواضعة تهدف الى نيل ابسط الحقوق المشروعة. بمعنى اخر اكثر وضوحا، فان هذه الحكومة لن تستطيع، من الان فصاعدا، ايهام عراقي واحد بوطنيتها وبقدرتها على محاربة الفساد وتحقيق اي اصلاح مهما كان بسيطا.