18 ديسمبر، 2024 7:43 م

عن مكتبة لينين سابقا ولاحقا

عن مكتبة لينين سابقا ولاحقا

لا زال الروس يطلقون عليها تسمية – مكتبة لينين ( ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين !) , ولازال الوصول الى تلك المكتبة يعني الذهاب الى محطة مترو تسمى ( مكتبة لينين ) , رغم ان الامر الاداري بتغيير تسمية المكتبة قد صدر عام 1992 عند انتهاء (العصر!) السوفيتي وولادة دولة روسيا الاتحادية, اذ انها اصبحت منذ ذلك الحين رسميا – المكتبة الوطنية . اختلف المترجمون العرب بترجمة تسميتها الجديدة , فمنهم من يقول – مكتبة الدولة , او , المكتبة الحكومية , او, المكتبة الرسمية , او , المكتبة العامة … الخ….الخ , ولكننا نميل الى استخدام مصطلح المكتبة الوطنية , التسمية المستقرة في اذهاننا – نحن العراقيين – طوال النصف الثاني من القرن العشرين ولحد الان , اما بالنسبة للروس في الوقت الحاضر , فليس مهمّا كيف تسمّى مكتبتهم الاولى رسميّا , اذ انها بالنسبة لهم كانت وستبقى على ما يبدو – مكتبة لينين , والامر كذلك حتى بالنسبة للاجيال الجديدة من الروس , وقد وقف أحد العراقيين المرحين مرّة في مركز موسكو ( اي ليس بعيدا عن تلك المكتبة ) وأخذ يسأل الروس – اين تقع ( مكتبة الدولة ) ؟ وكانت الاجابات قاطبة تتوزع بين اجابتين لا غير , وهما – ( لا أعرف ) او ( تقصد مكتبة لينين؟ ) , وهي تجربة ضاحكة طبعا ضمن تجارب الشباب المرحة, ولكنها حيوية وفريدة في آن واحد , اذ انها تعني ما تعنيه في مفاهيم علم الاجتماع .
وعندما وصلنا في بداية الستينيات الى موسكو للدراسة في جامعاتها , لم تكن مكتبة لينين تخطر ببالنا اصلا , ولكن عندما ازدننا معرفة وعمقا في دراستنا , بدأنا نشعر بضرورة الذهاب الى المكتبات العامة ( اذ لم تكن في تلك الفترة الاتصالات الالكترونية كما هو الحال في الوقت الحاضر ) , واكتفينا في البداية باستخدام المكتبات العامة , التي كانت موجودة ومتوفرة في جامعاتنا ليس الا , ولكننا بالتدريج وصلنا الى القناعة بضرورة الانتقال الى مكتبة لينين واستخدام مصادرها المتنوعة والغنيّة , والاستفادة من تنظيمها الدقيق و المدهش , ولا زلت اتذكّر (الانبهار!!!) عندما دخلتها لاول مرّة , اذ اكتشفت عالما خاصا , مليئا بملايين الكتب والدوريات, ويخضع لتنظيم صارم وانسيابية دقيقة , خصوصا وان الادارة قد منحتنا – نحن الاجانب – حق استخدام القاعة رقم (1 ) في تلك المكتبة , وهي القاعة المخصصة للعلماء وكبار الشخصيات , وكنّا نرى بينهم , مثلا , مولوتوف , وزير خارجية الاتحاد السوفيتي السابق ايام ستالين , وكان يواظب يوميّا تقريبا على الجلوس في تلك القاعة بمفرده ويطالع بانتباه الكتب الموجودة امامه على الطاولة , وكان النظام السائد في المكتبة يمنع ادخال الحقائب , وكان هناك مكان خاص عند المدخل نضع فيه حقائبنا ونأخذ رقما خاصا , وعندما نخرج نستلم الحقيبة وفق الرقم , وكانوا يسمحون فقط بادخال دفاتر الملاحظات , وعند الخروج كانوا يلقون نظرة بشكل سريع ومؤدب على تلك الدفاتر ( ربما خوفا من وجود وريقة مقطوعة من الكتب ) , وقد لاحظت , ان مولوتوف كان يخضع ايضا – وبكل روح رياضية – لهذا النظام العام عندما يخرج من المكتبة. وتوجد في المكتبة كل وسائل الخدمات للقراء من مطعم ومقهى …الخ , اذ ان المكتبة تعمل منذ الثامنة صباحا حتى العاشرة ليلا .
كل هذه الانطباعات كانت قبل اكثر من اربعين سنة مضت , وعندما عدت الى هذه المكتبة العتيدة قبل سنوات قليلة , وجدت انها قد ارتدت حلّة جديدة زادتها جمالا وتألقا , اذ اصبحت الكتب الشرقية – مثلا – في بناية مستقلّة تقع مقابل المكتبة , وهي بناية تاريخية جميلة , وعندما طلبت منهم كتابا عراقيا صدر في بغداد عام 1945 , ساعدني الموظف المختص بالعثور عليه في الفهارس الخاصة , ثم اخبرني بعد حوالي نصف ساعة ان هذا الكتاب دخل في خزانات خاصة للحفظ , وانني اقدر ان اطلع على الفلم المستنسخ منه في قاعة خاصة معدّة لتلك العروض , وحدد لي موعدا دقيقا لذلك . ويسود المكتبة الان نظام الكتروني في الدخول لها والتسجيل والخدمات الادارية الاخرى , وهناك برامج ثقافية ومعارض كتب متنوعة جدا في قاعاتها العديدة ….
في الستينيات كانوا يقولون لنا , ان مكتبة لينين تشغل المكان الثاني عالميا بعدد كتبها ودورياتها , وهو (33) مليون , وذلك بعد مكتبة الكونغرس الامريكية , التي كانت تحتوي على (40) مليون , ولكن هذه الارقام قد تغيّرت في الوقت الحاضر , وهناك الان خمس مكتبات تقف في الصدارة عالميا , ومنها طبعا المكتبة الوطنية لعموم روسيا , اي مكتبة لينين كما يسميّها الروس , وقد اطلعت قبل مدّة على احصائية تشير , الى ان عدد الكتب والدوريات الموجودة بهذه المكتبة حاليا أكثر من (44) مليون , وان هذه الكتب و الدوريات ب ( 367 ) لغة من لغات العالم .
المكتبات العامة دليل حضارة الامّة , والحفاظ عليها والاعتناء بها وتطويرها دليل حيوية تلك الامّة , والحليم تكفيه الاشارة يا اولي الالباب …