في منتصف القرن الماضي صدر للأكاديمي الإيراني عبد الحسين زارينكوب كتابٌ عن الفترة التي تلت دخول الإسلام لبلاد فارس اسماه “قرنان من الصمت” تعبيرًا عن حالة الغياب أو إن شئتَ الغيبوبة الفكرية التي رزحت تحتها إيران عقب الفتح الإسلامي حسب وجهة نظر الكاتب الذي لا يُخفي ميوله القومية العدائية تجاه الحضور العربي في الهضبة الإيرانية.
وبعيدًا عن النظرة المعلبة والجاهزة لهذه الفترة بوصفها فترة تسلط عربي على شعوب البلاد المفتوحة من جهة، أو بوصفها فترة تبلور المشاعر المعادية للعرب من قبل هذه الشعوب وهو ما اصطلح على تسميته في الأدبيات العربية بـ”الشعوبية” وكان يقصد به غالبا عداء الفرس للعرب، فإن هذه الحقبة والقرون التالية لها شهدت وعلى نطاق واسع توهجًا استثنائيًا وفريدًا في الثقافة والفكر العربي نتيجة مساهمات الكُتّاب والأدباء الفرس بالعربية وتبنيهم لثقافة العرب الوافدة.
ومن تجليات هذا التلاقح الفكري ظهور طبقة من العلماء والكتّاب الفرس الذين عشقوا العربية بكل جوانحهم وتبحروا في نحوها وصرفها وغريبها وكرسوا حياتهم لخدمتها وفي مقدمتهم سيبويه إمام نُحاة العربية الفريد، ولا شك أنه وأضرابه لم يكونوا منطلقين من نظرة دونية لذواتهم وثقافتهم ولغتهم الأم وإنما وجدوا في التفاعل مع العربية وتبني ثقافتها شغفًا جذبهم لها ورسخ مودتها في نفوسهم، إذ ينقل ابن جني عن شيخه أبو علي الفارسي الذي يعدّ أحد النحويين الكبار في العربية أنه كان يغضب كل ما سأله أحد عن شيء من نحو الفارسية الذي كان ضليعا به، رغبة منه في اقتصار الكلام على العربية! ونرى عبد القاهر الجرجاني يُخصص جزءًا من مقدمة مؤلفه “دلائل الإعجاز” للدفاع عن الشعر العربي، وهذا التحول من تقبل الثقافة والأدب العربي إلى الدفاع عنهما سنشهد له حضورًا مكثفًا عند كاتب فارسي آخر، كوفي المولد بغدادي السكن هو ابن قتيبة الذي ألف رسالة في الدفاع عن العرب اسماها “رسالة في الرد على الشعوبية”، ويرى بعضهم أن الرسالة تجاوزت مسألة الدفاع عن العرب للتعنصر لهم.
وإذا ما كان يحلو لبعض القوميين الفرس رمي هؤلاء الأعلام بتهمة كره الذات والوقوع تحت تأثير المبدأ الخلدوني“ولع المغلوب بالغالب”، فإن المسألة أعمق بكثير من هذا التسطيح المخل لأن العربية بقيت تحظى باهتمام المثقفين الفرس حتى بعد زوال النفوذ العربي المباشر وتحول خلافة بني العباس لسلطة شكلية وشرفية. فالصاحب بن عباد الذي كان وزيرًا في عهد بني بويه كان مولعًا بالعربية ومنددًا بالشعوبية رغم عرقه الفارسي، وتحتفظ كتب التاريخ بذكر تصرفه حين ألقى شاعر فارسي في حضرته قصيدة حطت من شأن العرب وأعلت من شأن الفرس فلم ترق له، وطلب من بديع الزمان الهمذاني الذي كان حاضرًا أن يرد عليه، وله موقف آخر يدل على عمق انتماءه للعربية إذ بعد اطلاعه على كتاب العِقد الفريد لابن عبد ربه وكان شديد الحرص على اقتناء الكتاب، قال بعد الفراغ منه “بضاعتنا رُدت إلينا” في إشارة لكون الكتاب في معظمه نقل للشعر المشرقي. وما يهمنا هنا استخدامه لمفردة بضاعتنا أي إنه لا يعدّ الأدب العربي أدب قوم غرباء عنه بل هو أدبه وأدب قومه، وأنهم مع العرب يشكلون كُلًا ثقافيًا واحدًا.
كما نلحظ موقفًا آخرًا للإمام الزمخشري في مقدمة كتابه المفصل إذ يندد بالشعوبية ويحمد الله على أنه لم يسلك مسلكهم، فهو يعد الشعوبية نزعة عنصرية قمين بالمسلم الحقيقي أن يربأ بنفسه عنها. ويتجسد التلاقي الثاني في منطقة هي خارج بلاد فارس في العراق تحديدًا وتمثلت في ظهور عدد من الشعراء الفرس الناطقين بالعربية كأبي نواس وبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأمثالهم، وهؤلاءِ هم مَن قاد حركة التجديد في الشعر العربي، وبعيدًا عن ما رُموا به من إذكاء نزعة الشعوبية فإنهم مثلوا علامة فارقة في الشعر العربي، ومسألة شعوبيتهم محل جدل وشك لاسيما إذا ما علمنا انحياز أبو نواس مثلا للخلفية الأمين في صراعه مع المأمون، مع أن الأمين وفق الأدبيات القومية العربية مَثل النسق العربي لانحداره من أم عربية عكس المأمون ابن الجارية الفارسية!
ورغم هذا التواشج الفكري الكبير فإننا نجد أن العلاقة السياسية بين العرب والفرس شهدت نكبات وعثرات جعلت العلاقة بين الجانبين أكثر حذرًا وريبة، فالعلاقة بين أبو مسلم الخراساني والمنصور والبرامكة والرشيد والأفشين والمعتصم رغم التعاون المثالي بينهما في البداية انتهى إلى خاتمة تراجيدية اطاحت بالطرف الفارسي قبل أن تنزلق الامورفيما بعد لغلبة العنصر الأعجمي الفارسي تارة والتركي تارة أخرى ويصبح الخليفة أسير إرادة من هو دونه من الأمراء. على أن هذه الصراعات لا تعدو أن تكون أحداثا طبيعية، تجسد الصراع على السلطة العابر للزمان والمكان والذي يمكن أن يحدث بين العرب انفسهم وبين الفرس انفسهم.
وتجذر هذا الانقسام مع قيام الصفويين بسلخ الجلد السني للفرس وابدالهم إياه بجلد شيعي بحد السيف، ليصبح التباين العربي الفارسي مزدوجًا “مذهبي وعرقي“،مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا التحول قد تم على أيدي سلالة أذرية تركية وأن الفرس كانوا ضحايا له! واستمر الأمر على هذا الحال حتى زمن الشاه محمد رضا بهلوي ذو النفس القومي الذي كان يبغي ربط إيران بتراثها الساساني الذي سبق الإسلام، غير أن التحول الذي عاشته إيران في أعقاب الثورة الإسلامية والذي شهد ارتداد النظام للنهج الإسلامي قد عمق هوة الانقسام بدل ردمها، فشعارات تصدر الثورة واندلاع الحرب العراقية الايرانية والاحداثالتي تلت غزو العراق لا سيما التدخل الإيراني السلبي في بعض الدول العربية وصولا لتصريح بعض زعمائها في لحظة من الشعور بفائض القوة بأنهم يسيطرون على أربع عواصم عربية، عواصم كانت تئن تحت غمامة الخراب والدمار والتشظي الوطني وسط تسلط المرتبطين بإيران، كل هذه الأمور أدت لنفور كثير من العرب من إيران وكلما يتعلق بها.
وفي النهاية بات لدينا فئتان، الأولى انخرطت بكامل طاقتها مع إيران وهي تنظر لها بتقديس مطلق وتشاركها العقيدة المذهبية والمفارقة أن هذه الفئة تبنت الطروحات الشعوبية القديمة المتعلقة بذم العرب وكل ثقافتهم ولغتهم مقابل إعلاء شأن الفرس وكل ما يمت لهم بصلة، والثانية أفرطت في ذم إيران ورفض كل ما يخرج عنها بل قد غالت ونظرت بتشكيك لكل التراث العربي ـ الفارسي المشترك، وعدت إيران تجسيدًا للشر المطلق!
والحقيقة أنه يغيب عن بال الفريقين أن صفحات التاريخ ليست على مستوى خطي واحد، فكل طرف منهما أي العرب والفرس قد أساء للآخر في زمن وأحسن إليه في زمن آخر، وإن اعتقادي الراسخ هو أن الفترة التي شهدت تلاقحا فكريا وثقافيا بين العرب والفرس على محدوديتها قد انتجت أعمالا أدبية وفكرية كبيرة وكانت علامة فارقة في مسيرة الأدب والفكر العربي وفي مسيرة تراث الفرس المكتوب بلغات ثانية. وإني لأرجو أن يجود الزمان بفترة لاحقة يصبح فيه التقارب الثقافي والفكري بين هاتين الأمتين ركيزة العلاقة السليمة بينهما. لعل وعسى.