إن للناس حول خديك حوما
كالفراش الذي على الثريا حاما
لست أدري -وفي الحقيقة أدري- لماذا أتذكر البيت أعلاه كلما تناول ساستنا موضوع قانون العفو العام..! لعلي أرى في هذا القانون ميزة عن باقي القوانين، وما وجه التميز هذا إلا لأن المطالبين بإقراره لهم وجهات نظر فيه، لايؤمنون بها ولايقرونها ولا يستسيغونها، ومع هذا فهم يستميتون من أجل إقراره وتفعيله، وقطعا هذا لغاية في نفس يعقوب..!
العفو.. هذه الكلمة التي لم تألُ الكتب السماوية والأنبياء المرسلون والأئمة الصالحون من الحث على تطبيقها مع العدو والصديق، مع المسيء والمحسن، مع العاقل والجاهل، وما أغنى كتب التاريخ بوقائع وقصص وحكايات مثـَّل العفو فيها أسمى سمات الرجولة وأرقى المعاني الإنسانية النبيلة، ونحن المسلمون لنا في رسول الله أسوة حسنة، فيما اتخذه من تصرف حيال سادات قريش عند فتح مكة بيد المسلمين، حين قال قولته التي تمثل العفو عند المقدرة: “من دخل دار ابو سفيان فهو آمن”. ذلك الموقف الذي يجسد القيمة العليا المنشودة من العفو، تلك القيمة التي تزيد من شأن العافي عن المسيء، وفي ذات الوقت لاتقلل من شأن المسيء. بل تفتح أمامه أبواب العدول عن عمله او فعلته أو رأيه، والرجوع عن غيِّه ليصطف مع معيته في مسيرة الحياة، والكلام حتى اللحظة عن أخطاء تغتفر وزلات بالإمكان التغاضي عنها، وهفوات يكون الصفح فيها أنفع من العقاب.
إن مايذكرني بالعفو دوما هو ما يدور بين الحين والآخر من حديث عن العفو العام الذي ندر مايخلو بيت عراقي من متابعة أخباره، وما وصلت اليه الحكومة والبرلمان من البت في اصداره وتفاصيل بنوده وفقراته. وما ذاك إلا لكون الكثير من ذوي الأسر العراقية نزلاء في السجون كمحكومين او غير محكومين، وكلهم بانتظار الفرج والإفراج، لاسيما ان هناك بريئين منهم يقبعون منذ سنين خلف القضبان من دون ذنب. ومنهم من أذنب فعلا ولسان حاله يجسد ما أنشد الشاعر الذي يتوسل العفو من الخليفة بعد ذنب أقرّ به:
أتيتُ جرما شنيعا وانت للعفو أهل
فان قتلتَ فعدل وان عفوتَ فمنّ
العفو إذن فوق العدل، وكيف لا! وقد وعد الله الـ (عافين عن الناس) خيرا، ومن أسمائه الحسنى (العفو) وقد اقترن العفو بالعدل في مواضع عديدة من كتاب الله، وكما هو رب المحسن؛ كذلك هو رب المسيء. وفي شأننا العراقي اكتظت سجوننا بالمذنب والبريء على حد سواء، ومطلوب من حكومة العراق ورئيسها ومن البرلمان ورئيسه ومن الدولة ورئيسها، ان ينصفوا الأبرياء، بعد التحقق من براءتهم والتأكد منها، كذلك إعطاء فرصة امام من أذنب وأقر بذنبه، بعد التأكد من صدق نيته بتحسين سيرته وسلوكه، ليكون عنصرا كفوءًا في المجتمع يساهم في بنائه بالشكل السوي القويم ولكن..! حذار حذار! من العفو عمن أساء بشكل مبالغ فيه للشعب العراقي، لاسيما الذين يدخل الإجرام بطباعهم وسلوكهم الذي تثبته الجهات الإجتماعية والطبية المسؤولة عن ذلك، فهم سيعيدون الكرّة تلو الكرّة في سوح المجتمع، وبذا سينطبق عليهم بيت الشاعر سعد بن سعيد الذي يصور فيه كيف جوزي عفو الرسول في فتح مكة بما حدث لسبطه في كربلاء، ومع أن القصة والأبيات والواقعة معروفة للجميع، إلا أن تكرارها في أكثر من مقام ومقال قد يسهم في إبعاد قانون العفو العام عن شبح إقراره بصيغته الحالية، فتكون إذاك الطامة الكبرى بشمول من لايستحق العفو والصفح والغفران، يقول سعد:
ملكنا فكان العفو منا سجية
ولمـا ملكتم سال بالدم أبطح
وحسبكم هذا التفـاوت بيننـا
وكـل إنـاء بالذي فيـه ينضح