18 ديسمبر، 2024 5:56 م

عن عودة تونس إلى أفريقيا

عن عودة تونس إلى أفريقيا

أن تحتضن أفريقيا أفريقية يفترض ويحتم عودة أفريقية حنبعل وعليسة وعقبة بن نافع إلى جغرافيا وأنثروبولوجيا القارة وأديمها الأسمر عبر تدشين سفارات تونسية جديدة في معظم العواصم الأفريقية.

يسميها خبراء الاقتصاد بسلة الغذاء العالمي، وينعتها علماء السياسة والاستراتيجيا برحم حركات التحرر ومعقل الجماعات المسلحة والميليشيات المتناحرة، ويصفها علماء المستقبليات برهان الغد ومصير اللاعبين الإقليميين والدوليين على الساحة العالمية.

هي أفريقيا، التي تكسر قيود العبودية والتخلف والنكوص عبر تسجيل بعض بلدانها المتأهبة والمتيقظة أرقام نمو تربو عن التسعة والعشرة بالمئة سنويا، وتضرب عميقا عبر العمل المشترك من خلال المفوضية الأفريقية والاتحاد الأفريقي والمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان وفضاء السوق المشتركة لشرق وجنوب القارة “كوميسا”، مقولات نمطية نصفها عنصرية مبطنة، ونصفها الثاني استعلاء استعماري أجوف.

وبعد عقود طويلة من توجيه البوصلة الاقتصادية والثقافية واللغوية والسياسية إلى القارة العجوز بدأت أفريقيا، الاسم القديم لتونس، تفكر وتشرع في التموقع الصحيح والأصلي ضمن عمقها الجغرافي والاستراتيجي صلب القارة الفتاة النضرة أو أفريقيا الشابة.

شروع رئيس الحكومة التونسي يوسف الشاهد في زيارة أفريقية تحمله إلى النيجر وبوركينا فاسو ومالي يشير إلى استراتيجية اقتصادية وسياسية جديدة بعيدة عن المألوف والرتيب والذي تقوقعت داخله تونس بعنوان الشراكات الاقتصادية التي استحالت بمقتضى القصور الاستراتيجي إلى مصير مالي لا محيد عنه.

صحيح أنّ توجه تونس اليوم إلى العمق الأفريقي يتنزل صلب الضرورات وليست الخيارات والإكراهات لا البدائل، لا سيما في ظل الأزمة المالية الطاحنة والعاصفة بالقارة العجوز والفترات المالية الحرجة التي يعرفها الخليج العربي والمعضلات الكبرى التي تعيشها ليبيا وضبابية الأفق في الجزائر، إلا أنّ هذا الخيار يبقى واحدا من أفضل وأصح الأوراق الاستراتيجية الواجب اعتمادها راهنا وتوسيعها على المدى المتوسط والبعيد.

وصحيح أيضا أنّ الفضاء الأفريقي مثّل ساحة لمكاسرة اقتصادية وسياسية مباشرة بين الفاعلين الأتراك والإيرانيين والإسرائيليين قبل أن تدخل روسيا بطم طميمها في المعمعة الأفريقية، وهو الأمر الذي ردت عليه واشنطن بحضور عسكري واقتصادي وسياسي ودبلوماسي ملحوظ في أفريقيا الشابة، إلا أنّ مجالات الشراكة التونسية الأفريقية لا تزال واعدة وقد تمثل رئة جديدة للاقتصاد المحلي منها يتنفس هواء نقيا وأصيلا أيضا.

وكما تدفع الرباط اليوم فاتورة دبلوماسية ثقيلة نسبيا في الاتحاد الأفريقي بعد أن تركت المجال مفتوحا لأصحاب وأنصار الكيانات الهجينة في المغرب العربي، فإنّ ضريبة اقتصادية ومالية ستسددها تونس بعد سبات استراتيجي واقتصادي عميق، لعل أهمها شدّة التنافس الشرس مع السابقين الأولين للملعب الأفريقي، والتباين النسبي بين المتطلبات العاجلة للسوق المحلية والعرض الأفريقي.

والحقيقة التي على الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين التونسيين الاعتراف بها والعمل وفق مقتضياتها أيضا كامنة في وجوب البحث عن البدائل الاقتصادية الحقيقية انطلاقا من دول البريكس إلى النمور الآسيوية، وليس انتهاء بدول أميركا اللاتينية التي تسجل بدورها أرقام نمو محترمة.

غير أنّ الانفتاح على الدول الأفريقية لا بد أن يتوازى مع حذر سياسي وقراءة استراتيجية عميقة للمحيط الأفريقي حتّى لا تنفجر الألغام السياسية في وجه الاقتصادي المندفع، ذلك أنّ زيارة الخرطوم التي أداها الشاهد مع فريق كبير من رجال الأعمال، وعلى أهميتها، إلا أنها قد تفضي إلى نتائج عكسية مع الشريك المصري الذي يعيش حالة من الاشتباك والتشابك مع الخرطوم شبيهة تارة بالعناق وطورا بالخناق.

وهي مقدمة تفرض على الفاعل السياسي التونسي استجلاء الأوضاع الإقليمية قبل الاندفاع الاقتصادي، حتّى لا تحسب خطوات الانفتاح ضمن حسابات الانحياز لطرف على حساب طرف ثان، لا سيما وأنّ الجغرافيات الحدودية المشتعلة منسحبة على أكثر من علاقة بينية في القارة الأفريقية.

أن تحتضن أفريقيا أفريقية يفترض ويحتم عودة أفريقية حنبعل وعليسة وعقبة بن نافع إلى جغرافيا وأنثروبولوجيا القارة وأديمها الأسمر عبر تدشين سفارات تونسية جديدة في معظم العواصم الأفريقية وإنشاء خطّ طيران حيوي ونشيط ودوري بين تونس والحضن الأفريقي العريق وإقامة مكاتب تجارية عديدة. والأهم من كل ما سبق أن تكون أفريقيا العمق الاستراتيجي الحقيقي وليس البديل التكتيكي المؤقت.
نقلا عن العرب