صدرت عن دار المدى في بغداد طبعة جديدة لرواية شولوخوف بترجمة غائب طعمه فرمان عنوانها – أرضنا البكر . رأيت غلاف ذلك الكتاب في الصحيفة ليس الا, وخطرت رأسا ببالي الترجمة القديمة لتلك الرواية , وكانت بعنوان – الارض البكر حرثناها , وتذكرت كيف كنّا ( في درس الترجمة بقسم اللغة الروسية بجامعة بغداد ) نقارن هذا العنوان بترجمة ( الاراضي المستصلحة ) , وهو العنوان الذي جاء في مجلة سوفيتية كانت تصدر بالعربية آنذاك , ونقول لطلبتنا , ان الترجمة هي عمل ابداعي وليس ( نقل من لغة الى اخرى ) كما يكتبون – مع الاسف – في كثير من الاحيان على بعض أغلفة الكتب المترجمة . وتذكرت ايضا دردشتي – مرة – مع غائب طعمه فرمان في موسكو , عندما قلت له , اني شاهدت اليوم ترجمتة لكتاب ( البصقماط الاسود ) , ولم استطع ان ( اهظم !) كلمة ( البصقماط ) في هذا العنوان , اذ ان موسيقيّتها ثقيلة جدا على الاذن العربية, ولهذا فقد ( شذّبتها !) اللهجة العراقية , وحولّتها الى ( بقصم ) ليس الا , فضحك غائب وقال , ان هذه المفردة موجودة في القاموس العربي , فقلت له , ما أكثر المفردات الموجودة في القواميس , والتي لا تتناسق ولا تنسجم مع الاذن العربية ومتطلباتها , ثم سألته , ألم يكن من الافضل التصرّف بهذا العنوان و ايجاد عنوان آخر ملائم يتقبله القارئ العربي , الذي يتوجه اليه المترجم ؟ فقال بأسى – ان ترجماتنا هنا تخضع لرقيب روسي صارم وشديد جدا و لا يتساهل ابدا مع اي تحوير او اعادة صياغة , وخصوصا بالنسبة للعناوين .
( ارضنا البكر ) و ( الارض البكر حرثناها ) – عنوانان يخضعان للاجتهاد الترجمي الابداعي , وكلاهما جميلان فعلا, الا ان الترجمة الثانية , اي ( الارض البكر حرثناها ) تعبّر بشكل أدق عن نص العنوان الروسي لرواية شولوخوف , رغم ان فعل ( زرعناها ) اكثر دقّة من فعل ( حرثناها ). هناك رواية اخرى لشولوخوف , وهي الاهم في نتاجه الابداعي , وعنوانها ( الدون الهادئ ) , والتي ترجمها مجموعة من فطاحل المترجمين العراقيين في حينها , واصدرت دار المدى ايضا طبعة جديدة لها بمراجعة غائب طعمه فرمان . يوجدعنوان آخر بالعربية لهذه الرواية , وهو (هادئا ينساب الدون ) . العنوان الاول , اي ( الدون الهادئ ) هو ترجمة حرفية , ولكنها تحتفظ ببنية النص الروسي وتحافظ على جماليته بالعربية في نفس الوقت , اما العنوان الثاني , اي ( هادئا ينساب الدون ) فهي ترجمة ابداعية , وتعبّر ايضا عن طبيعة النص الروسي , ولكن ترسمه باجواء شاعرية تتناسق مع روحية القارئ العربي ومتطلباته , ولا تتعارض – في نفس الوقت – مع ذلك النص الروسي (رغم انها ذهبت أبعد من البنية الروسية !) , اذ ان فعل ( ينساب ) يعبّر طبعا عن حركة الماء الهادئة في نهر (الدون ) .
عنوان النتاج الادبي مهم جدا , فهو ( الناطق الرسمي !!!) امام القراء باسم ذلك النتاج , و هناك آراء مختلفة بشأن ترجمة العناوين , اذ يرى البعض , انه لا ضرورة للتصرّف بترجمة العنوان , اذا كانت الترجمة الحرفية تفي بالغرض فعلا , اي تعبّر عن النص الاجنبي وعن جمالية النص العربي في آن , ولكن بعض العناوين تتطلب – وبشدّة والحاح – التغيير والتحوير والاجتهادات الابداعية (وعنوان الاراضي المستصلحة لشولوخوف من ضمن هذه العناوين طبعا) . هناك أمثال كثيرة اخرى لهذه الظاهرة في ترجمات الادب الروسي الى اللغة العربية, ولا يتسع المجال للتوقف عندها , ولكننا نختتم هذه الملاحظات السريعة عن ترجمة العناوين بمثل (صارخ !) يرتبط بغوركي , اذ توجد لديه رواية قصيرة مشهورة عنوانها( حسب الترجمة الحرفية ) هو- ( اناس سابقا ) , وهو عنوان طريف وجميل بالروسية , وغير اعتيادي بالمرّة , ولكن لا يمكن بتاتا ترجمته حرفيا , وقد تم ترجمته الى العربية فعلا بطريقة مبتكرة وجميلة وهي – (مخلوقات كانت رجالا ) .
الترجمة علم وفن معا , وترجمة العناوين تتطلب من المترجمين جهودا علمية وفنيّة مضاعفة وتأمّلات فكرية هادئة , لأن العنوان هو – الواجهة الاولى والحقيقية للعمل الترجمي …