23 ديسمبر، 2024 10:17 ص

عن شارلي ايبدو .. أيضا

عن شارلي ايبدو .. أيضا

لم يعد الموقف من حادثة الاعتداء على صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية معيارا للموقف الاخلاقي أو السياسي من الحرية أو من الارهاب، ثمة تداخل في المشهد حين يجتمع الضحية والجلاد على مائدة واحدة. صورة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مكفهرا الى يسار رئيس الوزراء الفرنسي هولاند توازيها صورة رئيس حكومة الكيان الصهيوني نتنياهو باسما الى يمينه وهو يلوح للجماهير الفرنسية المحتشدة على جانبي الطريق الذي سلكته المسيرة الاحتجاجية لاكثر من خمسين شخصية من قادة العالم حضروا الى عاصمة النور لمؤازرتها في فجيعة لا تعادل أكثر من درجة على مقياس الفواجع التي تستوطن مناطق اخرى من عالم يسوده هوس لعبة النفط والدم.ثمة إيغال في شد حبال التطرف قد يقود الى كارثة بشرية من النوع النووي أو الكيمياوي أو البيولوجي على أقل تقدير. الصحيفة الفرنسية الساخرة موغلة ومستمرة في نشر الصور الكاريكاتيرية المسيئة للاسلام ولرمزه المقدس عند المسلمين النبي محمد(ص). لم تعد اللعبة تجارية بحتة حين يكون ثمن الاقبال على شراء نسخ الجريدة واتساع رقعة انتشارها دم العاملين فيها، بل ودم حمايتها من شرطة وأفراد أمن آخرين. والقائمون على الجريدة لم يتوقفوا عند الهوية الدينية لثلاثة من طاقمها الذي قضوا في الحادث الاخير وهم من المسلمين الذين تسيء الجريدة الى دينهم ومعتقدهم. والمتطرفون موغلون في تهديداتهم للجريدة ولوسائل إعلامية اخرى انتقاما “كما يعتقدون” لدينهم ونبيهم. شد الحبال هذا يزيد من وتيرة التوتر في الشارع الغربي ضد المهاجرين المسلمين الذين يدفعون ثمن مواقف المتطرفين المصنعين أصلا في دهاليز أجهزة المخابرات الغربية، كما يزيد التوتر في منطقة الشرق الاوسط التي تعيش ساعاتها في ترقب انفجارها في أية لحظة. ثمة تحرك يعيد الى الاذهان إعادة إنتاج الحقبة الاستعمارية الفرنسية. حاملة الطائرات الفرنسية “شارل ديغول” تتوجه الى مياه الخليج بالتزامن مع بيان تبني تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية لحادثة الصحيفة الفرنسية. أجواء تذكر بما حصل في واشنطن عشية تفجيرات 11أيلول، لكن الفرق هنا هو في آليات رد الفعل. الأميركان يتحركون على إيقاع المارشات العسكرية، أما الفرنسيون فهم يتحركون عسكريا، لكن على إيقاع الفالس. وضمن التوزيع الجديد لمراكز النفوذ ليس من المستبعد ان تقدم باريس على تفكيك اليمن كما فعلت في ليبيا تحت ذريعة مكافحة الارهاب القادم من اليمن.

النفط الذي تهيمن عليه الشركات الكبرى، ومنها الفرنسية بطبيعة الحال، والدم الذي يصبح سيد الالوان في المدن والشوارع والبيوت كما يجري في ليبيا الآن.

الشارع الفرنسي المحتقن، كما حال الشارع الغربي عموما، قد يقدم على أعمال شغب يدفع فاتورتها المسلمون في فرنسا، لكن احتواء الصدمة الذي يحتاج الى بعض الوقت سيعيد طرح أسئلة جوهرية متعلقة بصناعة الارهاب، خصوصا الديني منه، ومتعلقة أيضا بتاريخه وبمصادر دعمه وتمويله. ثمة أصوات معتدلة بدأت تخرج من بين النخب تطالب بجردة حساب متعلقة بدور فرنسا في رفد التنظيمات الارهابية في المنطقة بمقاتلين يحملون جنسيتها. أصوات أخرى تطالب بمراجعة منظومة القيم الاخلاقية وحدود الحرية، خصوصا في بعض وسائل الإعلام التي أصبحت مرتعا لإثارة الفتن الدينية والمذهبية، ومصدرا لإثارة الكراهية بين الاديان والشعوب، مذكرين بالحروب المذهبية الطويلة بين الكاثوليك والبروتستانت والارثوذكس، والتي لم يكن الاسلام طرفا فيها لا من قريب ولا من بعيد. اليسار الفرنسي الذي يبدو وكأنه فقد البوصلة، لم يقم بالإدلاء بدلوه بعد، لكن بعض مثقفيه يتساءلون علانية عن حدود الحرية ومداها، ويتساءلون أيضا إن كان هدف صحيفة “شارلي إيبدو” بنشر صور كاريكاتيرية مسيئة للاسلام ورموزه وتستفز مشاعر أكثر من مليار ونصف المليار مسلم لأسباب تجارية متعلقة بالتسويق فقط، أم انها تقود حملة منظمة لاثارة الفتنة في فرنسا، وإن حدثت، هل سيدفع المسلمون فقط ثمنها أم ان الشعب الفرنسي برمته سيدفع الثمن؟. الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري يكتب موضحا: “المسلمون ليسوا مغفلين كما يعتقد البعض في فرنسا وأوروبا، هم فقط يجتاحهم بعض الضعف ورد فعلهم يكون عنيفا لأن ما نفعله في بلدانهم أخطر بكثير من مجرد قتل عشرة أشخاص، فنحن نقتل المئات منهم يوميا”.

وبابا الفاتيكان يختصر المشهد بالقول “حين تسب أمي فلا تستغرب حين أوجه اليك صفعة”.

حادثة “شارلي إيبدو” كشفت الوجه الآخر لفرنسا. وحرية التعبير التي تفخر بها عاصمة النور تتعرض لمحاكمة أخلاقية. ليس حقيقيا ان هذه الحرية تقترب من الاطلاق كما يدعي البعض من المثقفين العرب الذين أصبحوا ملكيين أكثر من الملك ذاته. لا بد من التذكير هنا ان صحيفة “شارلي إيبدو” حين نشرت قبل أشهر رسما كاريكاتيريا لرمز من رموز اليهودية تعرضت لضغوطات داخلية كبيرة، كما طلبت منها الخارجية الفرنسية ان تقدم اعتذارا لليهود في العالم، كما ان الامر تكرر مرة اخرى حين قدم مخرج مسرحي فرنسي عرضا ينتقد في بعض مشاهده اليهودية، فأقدمت السلطات الفرنسية آنذاك على منع العرض وتقديم المخرج الى المحاكم بتهمة معاداة السامية. هذه الازدواجية في المعايير وفي التعامل ضمن خيمة مقولة “حرية التعبير” تكشف في بعض جوانبها ان العبث بعش الدبابير هو من أجل تعويم الصورة الاخرى للاسلام السياسي، صورة الاسلام الاصولي المتعصب، على حساب الصورة

الحقيقية للاسلام وهي صورة المحبة والتسامح واحترام عقائد الآخرين، وبدلا من محاصرة الافكار الاصولية الدموية، تعطي مثل هذه الممارسات ذريعة لتصاعد منسوب العنف والدم الذي تشجبه المنظومة القيمية لمختلف المجتمعات الانسانية كما تشجبه تعاليم وقيم الاديان السماوية