عن سنجار وإنصاف أهلها

عن سنجار وإنصاف أهلها

تلك البقعة من الارض التي تقع شمال غربي العراق، وتجاورها من احد اطرافها الحدودية مع سوريا، لا يعرفها جيداً إلا من عاشر اهلها وتجول في شوارعها ليكتسب تجربة الاطلاع عن قرب على طبيعة ساكنيه من المكون الايزيدي وكيفية ممارسة طقوسهم وعاداتهم الاجتماعية التي يتميزون بها عن غيرهم في الكثير من القضايا..
سنجار التي ذاقت مرارة النظام السابق وتجاهله متعمداً لاهلها وناسها، بطريقة معاملته وحرمانهم من جميع امتيازات المواطنة، ومنها الحصة الغذائية، فكان الايزيدي لا يشمل بنظام البطاقة التموينية، لان النظام ادخلهم بصراعه مع الاحزاب الكردية وجعلهم ضحية لخلافاته السياسية، حتى ضاعت حقوقهم بين أربيل وبغداد، وكأنهم يعيشون حياة اللجوء بدون مستحقات على ارضهم التي ورثوها عن الأجداد وفيها (لالش) الذي يعد اقدم مكان للعبادة وممارسة الطقوس الدينية التي يؤمنون بها ويعتقدون باحقيتها، ولم تقف سياسات النظام السابق عند تلك الممارسات لكنها امتدّت لتسلب اراضيهم وتمنع تمليكها لهم بقرار تعود جذوره لايام احمد حسن البكر حينما كان رئيسا للجمهورية في العام 1975، وتحديداً بعد توقيع اتفاقية الجزائر مع الجارة إيران والعمل بسياسة احتواء الحركات الكردية، لتتخذ حكومة البعث في وقتها خطوة تمثلت بتهجير الايزيديين من قراهم وتهديمها وردم الابار وعيون الماء فيها، وحصرهم بمجمعات سكنية شيدت خصيصا لتسهيل مهمة مراقبتهم وتدميرهم اقتصادياً.
معاناة الايزيديين تجاوزت تجريدهم من حقوق المواطنة ووصلت لتشويه صورتهم اجتماعياً، من خلال اتهامهم بعبادة الشيطان ومعاداتهم للمسلمين والعرب بشكل عام، وهي “تجنيات” تخالف الحقيقة وتبتعد عن الواقع بملايين الكيلومترات، وبالامكان كشفها من خلال تجربة للعيش بينهم لايام قليلة لتكون كفيلة بنسف جميع تلك التصورات، وهو ماحصل حينما دفعتني الأقدار وبدون تخطيط مسبق لقضاء عدة اشهر بين عامي 2006 و2007 بين الايزيديين وعلى ارض سنجار، فبعد أيام من التعارف ومبادلة الأحاديث الجانبية اثناء الجلوس لتناول وجبات الطعام في العمل الذي جمعني بالعديد من الشباب الايزيدي وبعد مشاهدتهم يرددون البسملة قبل الطعام ويتحمدون باسم الجلالة عند الانتهاء، اخترت مواجهتهم بالاخبار التي كان تصلنا عنهم، بطرح عدة تساؤلات لاحدهم الذي اصبح من اعز الاصدقاء لاحقا.. “كيف تذكرون اسم الله على الطعام وانتم تبعدون الشيطان”، فتبسم كعادته التي يعرفها جميع من يتعامل معه، قائلا “نحن لا نعبد غير الله لكننا نقدس الملائكة وزعيمهم الملك الطاووس” وختمها بابتسامة ثانية زادت من علامات الاستغراب التي رسمت على ملامح وجهي، لكنه بادر ثانية لابعاد الدهشة التي إصابتني، بدعوة لمنزله حتى يطمئن قلبي وارى حياتهم عن قرب، استمرت لقاءاتنا اليومية حتى تعمقت صداقتنا وعرفت الكثير عن طبيعتهم ومعيشتهم واصبحوا ينادونني بوصف (كريف) وحينما سألتهم عن المعنى اتضح انها (اخوة الدم)، وهي عبارة يستخدمها الايزيدون للتعبير عن عمق الترابط والعلاقات، لكونها جزءاً من تقاليدهم المجتمعية، فحينما يريد الايزيدي اجراء عملية ختان لاطفاله، يختار شخصا مقربا بغض النظر عن ديانته وقد يكون في الغالب من المسلمين ليضع طفله في حضنه اثناء الختان، وبهذا تكون العلاقة بين والد الطفل وصديقه المقرب الذي جلس المختون بحضنه معقودة برباط الدم.
انتهت إقامتي في سنجار التي استمرت لعدة اشهر، لكن علاقتي مع الشباب الايزيدي وخاصة صديقي الذي سأعرفكم باسمه (إسماعيل) ما زالت مستمرة، وحينما دخلت معاناتهم مرحلة جديدة بعد زحف تنظيم داعش الإرهابي من الموصل إلى سنجار في شهر اب من العام 2014، وعند اولى ساعات دخولهم للمدينة “المنكوبة” لم يفكر صديقي اسماعيل سوى بالنجاة والحفاظ على عائلته فاختار اللجوء إلى جبل سنجار الذي وقف على قمته ليخرج هاتفه ووضع إصبعه على زر الاتصال ليبلغني بما يحصل معهم، تلقيت المكالمة وكان حينها على الطرف الاخر صوت متعب بانفاس متقطعة، يخبرني بان داعش دخل سنجار وعناصره يقتلون بدون رحمة جميع من يقف أمامهم، وانه هرب نحو الجبل للنجاة بنفسه مع اهله وعائلته ولا يعلم مصير اقربائه والاصدقاء، حاولت تطمينه وضرورة التوجه نحو منطقة امنة قبل توديعه بكلمات يغلب عليها الحيرة والقلق، ليبدأ بعدها فصل جديدة من قصص المعاناة لهذا المكون وتدخل سنجار واهلها مرحلة مظلمة خيم عليها القتل وسبي النساء وتحويل الأطفال لمجرمين وقنابل موقوتة تفتك بأهلها قبل غيرهم، لتضاف صفحة اخرى لسجل الجرائم المرتكبة بحق المكون الايزيدي.
صحيح… تحررت سنجار بعد اكثر من عام واستعادت الحكومة المركزية السيطرة عليها في العام 2017 خلال عمليات فرض القانون التي شملت كركوك ومناطق في سهل نينوى بعد اجبار قوات البيشمركة على الانسحاب منها، لكن معاناة اهلها مع النزوح وعدم تعويضهم دفعت العديد منهم للبقاء في “المنفى” حتى (اسماعيل) ادمن حياته في المانيا وحينما أراد العودة لاستنشاق هواء سنجار وديار الطفولة وجد اسمه على قائمة المنع بقرار من وزارة الداخلية، لانه كان منتسباً وبعهدته “مسدساً حكومياً” تطالب الحكومة باستعادته، لكنها لم تساءل كيف نجا اسماعيل باهله وترك منزله بجميع مايحتويه لينهبه عناصر داعش، وبدلاً من تسهيل عودته للوطن تضع العراقيل لتقطع عليه آخر حبال الوصل بارض اجداده.
الخلاصة:… ان القرار الاخير لحكومة محمد شياع السوداني بتمليك الأراضي لأهالي سنجار بعد 50 سنة على حرمانهم منها، ونحو 10 سنوات على تحرير القضاء من سيطرة داعش، يحتاج لقرارات “شجاعة” اخرى تسهل عودة الايزيديين من الخارج وتمنحهم التعويضات المنصفة التي تشمل الجميع بدون استثناءات، ومواقف مسؤولة تبعد عنهم مشاريع “المساومات” السياسية التي سلمتهم لداعش في 2014، لان سنجار ارض عراقية ولا يمكن اقتطاعها لتحقق أحلام الانفصاليين…. اخيراً.. السؤال الذي لابد منه… هل انتهت معاناة الايزيديين؟.

أحدث المقالات

أحدث المقالات