عن رواية “حيرة” لريتشارد باورز

عن رواية “حيرة” لريتشارد باورز

إذا كان ما يزال لديك القليل من الإيمان بالإنسانية، القليل من الأمل، وذرة من التفاؤل مختبئة في أعماقك، فيمكنك قراءة رواية “حيرة” (Bewilderment). سوف تتأثر بشدة بموسيقى النص ووجود الطبيعة في كل مكان من خلال جميع أنواع الكائنات الحية، والحب الذي لا يتغير، حب الأب لابنه، ووجود الأم في كل مكان، الأم التي تعيش في كل شيء، ابتداء من الطيور، وانتهاء بالذاكرة. إنه رهان آمن أنك لن تخرج من هذه القراءة سالما.
إذا كنت تعتقد مثلي أن عهد البشر يقترب من نهايته، وأن الوقت قد حان ليختفوا من على وجه هذا الكوكب لأنهم لا يستحقونه، فإني أنصحك بقراءة هذه الرواية.
إذا كانت الكتب تتيح هروبا لا يمكن إنكاره، يسمح للمرء بالتخفف من ثقل الواقع، فإن رواية “حيرة” توفر رحلة إلى كواكب أخرى، حيث تكون الحياة مختلفة، أو بالأحرى، حيث تجد الحياة طريقا لها.
يتم استقبال القراء في هذه الرواية كضيوف، يقال لهم: من فضلكم لا تحدثوا ضجة، لا تزعجوا ما يحدث هنا، ويرجى أيضا عدم الحكم على القرارات التي يتخذها أب عاجز قليلا على مواجه ابنه الاستثنائي الذي تغمره العواطف. طفل لديه فكرة سامية عن الحياة والأرض والمخاطر التي تهددهما، طفل يسير على خطى والدته، المتمردة، الثائرة، محرضة الضمائر: “الحياة شيء يجب أن نتوقف عن محاولة تصحيحه. لقد كان ابني عبارة عن كون من المستحيل بلوغ نهايته. كل واحد منا هو تجربة في حد ذاته، ونحن لا نعرف حتى ما الذي من المفترض أن يختبره”.
كان بإمكان هذا الثلاثي العيش منعزلا عن العالم، خارج مسيرته نحو الدمار المتوقع، متجاهلا صرخات ونداءات النجدة التي ترسلها الأرض المعذَّبة. ومع ذلك، فقد قرر أن يخوض غمار المعركة، جسدا وروحا. كل فرد من هذا الثلاثي قاتَلَ بطريقته الخاصة. الثلاثي الذي واجه العالم من أجل شفاء الأرض، لأنه امتلك فكرة سامية عن الحياة، ومنح نفسه دور المبلِّغ.
عندما تصبح الحياة شاقة ومرهقة للغاية، يكتشف الأب والابن الكواكب الأخرى معا: استراحة لشخصين للهروب من العالم، من الواقع القاسي والمميت، الذي يدركهما دائما مهما حاولا الفرار منه: وظيفة الأب الشاقة، مشاكل الابن في المدرسة، الأخبار المؤلمة، إبادة الحيوانات، وانقراض السلالات. وبما أن عاطفة روبن (الابن) تتمتع بقوة تسونامي، فيجب على والده ثيو أن يواجه أزمات غير مسبوقة. ولأنه يحب روبن بشدة، فإنه يرفض بعناد سهولة بعض العلاجات لصالح حلول أكثر معقدة. ثم تأخذ الرواية منعطفا جديدا، حيث تركز على روبن الذي مثل تشارلي جوردون في رواية “زهور لألجرنون” -للروائي الأميركي دانييل كيز- يكتشف عالما جديدا: كوكبه السري.
تشكك رواية حيرة في الإنسانية من خلال عَينَي روبن البالغ من العمر تسع سنوات، وبقوة هذه المبادئ: “هناك أربعة أشياء جيدة تستحق الممارسة: إظهار اللطف لجميع الكائنات الحية. البقاء ثابتا وهادئا. أن تسعدك سعادة كل مخلوق. وإدراك أن معاناة أي كائن هي معاناتك أيضا”. مع تقدم أحداث الرواية، تزداد فضيلة التعاطف التي يتمتع بها روبن عشرة أضعاف. يَعتبر التبليغ عن المخالفات مهمته في الحياة. يصبح معلّم حياة: “أبي، هناك حقا خطأ ما فينا! يعرف كل الناس ما يحدث، ولكنهم يتعامون”.
من بين ما نتعلمه من هذه الرواية، أن للحب قوة هائلة، وللخيال نفس هذه القوة، فهو يسمح لنا بخلق عوالم، بالسكن في كواكب جديدة، بالبحث عن مصادر للحياة، وبالعيش بشكل مختلف.
تخبرنا هذه الرواية بأن العواطف سلاح ذو حدين، فهي تمنحنا القوة بقدر ما تهدمنا، وتسمح لنا بالمضي قدما بقدر ما تشلنا. تخبرنا بأن قوة الذاكرة والقدرة على الوصول إلى عقول الآخرين، تحفز بقدر ما تعوق.
رواية “حيرة” عبارة عن مصعد عاطفي وصافرة إنذار بيئية وصرخة من أجل الحق في أن نكون مختلفين، ودعوة للرحمة والتعاطف.
من خلال إعادة خلق عالمنا روائيا، جعلنا ريتشارد باورز نتأرجح بين فيروس الشعور بالسعادة والأمر الذي لا يحتمل الانتظار: “ساعدوني، فأنا أموت.” من النادر أن أنهي رواية وأنا أبكي… ومع ذلك… نجحت هذه الرواية في جعلي أبكي، ربما لأنني وجدت روبن يشبهني كثيرا على المستوى العاطفي. إن اكتشاف الكواكب في بداية الرواية، الكواكب الوهمية، هو اكتشاف الأمكنة الوحيدة القادرة على إشباع طمع الإنسان.
وأخيرا، إن السؤال الكبير الذي تطرحه هذه الرواية من وجهة نظري: هل نحن بحاجة إلى اختراع أمكنة قابلة للحياة؟ أم بحاجة إلى اختراع بشر يستحقون الحياة؟