23 ديسمبر، 2024 12:19 ص

عن دستويفسكي ومعطف غوغول مرة اخرى

عن دستويفسكي ومعطف غوغول مرة اخرى

اتابع طبعا ( وحسب امكانياتي المتواضعة ) الكتابات العربية حول الادب الروسي دائما , و أنا سعيد جدا بتوسّع تلك الكتابات وتعمّقها وموضوعيّتها بشكل عام مقارنة مع واقعها الذي كان في القرن العشرين , وخصوصا في بدايات النصف الثاني من ذلك القرن , عندما كانت سائدة في تلك الكتابات النظرة السياسية الضيّقة والساذجة و(المعلّبة!) ان صحّ التعبير , سواء من قبل اصدقاء الادب الروسي ( سياسيّا !) او المعادين له ( سياسيّا ايضا !) , اذ كان الادب الروسي آنذاك ( عملا سياسيا بحتا !) ليس الا . الا اني – وللأسف – ( اصطدم بالمعنى المباشر وغير المباشر !) بعض الاحايين – ولحد الان – بمجموعة من المفاهيم و التعابير غير الدقيقة ( بلغة الدبلوماسية طبعا , اذ يجب استخدام صفات اخرى حتما حول ذلك !!) , وعندما ( اصطدم بها !) , أقول (بيني وبين نفسي وانا احاول تبريرها) , ان هذا التعبير او ذاك حدث بشكل عابر ومتسرّع , او , ان هذا المفهوم لن يتكرر لاحقا في الدراسات القادمة لنفس هؤلاء الكتّاب, او , انه ربما خطأ مطبعي فقط , او , من المحتمل انه سهو ليس الا , او… , أو … الخ , ولكني بدأت الاحظ – ومع الاسف والاسى – تكرار هذه التعابير هنا وهناك ( وبعض الاحيان عند اسماء ليست مجهولة من الباحثين ) , ولهذا اود هنا ان اتكلم قليلا عن ذلك في هذه السطور , اذ انها فعلا ( تخدش !) النظر ( بتعبير مخفف !) , خصوصا عندما نراها امامنا وهي مطبوعة في مقالات او ( وتلك هي المصيبة ) حتى في كتب , فالعين تبقى (بصيرة!) , رغم ان اليد قصيرة .
الظاهرة , الذي اريد الاشارة اليها و التركيز عليها هنا , هو تكرار قول ينسبونه بشكل خاطئ الى دستويفسكي , وهذا القول هو – (كلنا خرجنا من معطف غوغول) . لم يعد لهذا المفهوم اي اساس في الكتابات عن الادب الروسي في روسيا نفسها منذ اكثر من نصف قرن تقريبا , اذ اثبت الباحثون الروس انفسهم , و بما لا يقبل الشك , ان دستويفسكي لم يكتب ابدا هذه الجملة في كل مؤلفاته الادبية او كتاباته النقدية او رسائله الشخصية , ولم يكتب أحد من أصدقائه او معارفه او معاصريه بشكل عام انه سمع هذا القول من دستويفسكي , وبشكل عام , فان هذا المفهوم لا ينسجم مع الخصائص الفنيّة لابداع دستويفسكي وفلسفته الدينية , المرتبطة – كما هو معلوم – بمسيرة الكنيسة الروسية الارثذوكسية , وتحليله النفسي المعمّق , وليس عبثا , ان فرويد بالذات هو أحد تلامذة دستويفسكي , أمّا غوغول , فهو رمز الواقعية الغرائبية , الواقعية الممزوجة عضويا بالخيال الابداعي غير الاعتيادي , وليس عبثا , ان بيكاسو وسلفادور دالي هما من تلامذة غوغول , والفرق شاسع بين فرويد من جهة وبين بيكاسو ودالي من جهة اخرى . وأذكر اننا تحدثنا عن ذلك في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد قبل اكثر من ثلاثين سنة مضت , ونشرت مقالة حول ذلك في مجلة ألف باء العراقية آنذاك ( أشار اليها قبل فترة مؤرشف الادب الروسي في العراق د . منذر ملا كاظم ) , ونشر بعض الباحثين ايضا مقالات بشأن ذلك , وأخص بالذات المقالة التفصيلية و الموضوعية حول هذا الموضوع للباحث العراقي الكبير في مجال الادب الروسي د. جودت هوشيار , ولكننا لا زلنا نرى – ولحد الآن – ان هذا القول غير الدقيق ( ولا اريد ان أقول اكثر !) حول دستويفسكي وانه ( خرج من معطف غوغول ) يرد هنا وهناك في مقالات عربية عديدة , وقد ( اصطدمت !) بهذا القول شخصيا في كتاب عن الادب الروسي صادر عام 2020 , وتعجبت ليس الا من ذلك , وقلت بيني وبين نفسي – آه لو استطيع ان أهمس في اذن هذا الباحث , أن دستويفسكي يبلّغك تحياته , واوصاني ان اقول لك , انه (لم يدخل ولم يخرج !) من معطف غوغول , وان كل هذه ( الحكاية !!!) اختلقها صحافي فرنسي في بداية القرن العشرين بكتاب له عن الادب الروسي , وانتشرت هذه الجملة الغريبة ذات البناء اللغوي الطريف, كما تنتشر كل الاقاويل والثرثرات والوشايات بين الناس , مثل (النار في الهشيم) , كما يقول تعبيرنا العربي الشهير …
دستويفسكي – سيداتي سادتي – لا علاقة له بمعطف غوغول , ولا تورطونا بكتاباتكم وتصريحاتكم عن مسألة في تاريخ الادب الروسي حسمها الباحثون الروس انفسهم منذ زمن بعيد , فهناك قراء عرب يتابعون ويحللون ويستنتجون …والكلمة المطبوعة والمنشورة – موقف واضح وثابت ودليل مادي , ولهذا يجب التفكير بشكل جديّ قبل نشر تلك الكلمات…