هذه الحلقة من سلسلة مقالاتي حول العراقيين الذين مروا بموسكو مكرٌسة للمرحوم مرتضى سعيد عبد الباقي الحديثي , والذي سبق لنا ان تناولناه في الحلقة رقم ( 6 ) حول موقف سفير العراق في موسكو آنذاك فاضل صلفيج العزاوي من الصورة التي كانت معلقة للحديثي على جدار السفارة العراقية بموسكو ضمن صور السفراء العراقيين السابقين كافة . العودة الى هذا الاسم ضمن هذه السلسلة سببها صدور رواية في بغداد عنوانها (حفل رئاسي ) بقلم الدكتور سعد العبيدي , والذي استخدم الكاتب فيها بعض الاسماء الحقيقية في روايته تلك ومنهم مرتضى سعيد عبد الباقي الحديثي , حيث أشار المؤلف هناك الى مسألة غريبة و جديدة جدا في موضوع استدعاء سفير العراق آنذاك في اسبانيا الى بغداد مرتضى الحديثي من قبل وزير خارجية العراق .
يرتبط مرتضى الحديثي في ذاكرتي الشخصية – قبل كل شئ- بمقابلتي له بالصدفة لاول مرة في بغداد عام 1972 , عندما كنت مترجما لوفد من صحفي بلغاريا في لقاء مع رئيس تحرير جريدة ( الثورة ) طارق عزيز في عصر احد الايام , واثناء هذا اللقاء دخل سكرتير مكتب طارق عزيز
واخبره بوصول السيد وزير الخارجية مرتضى الحديثي الى مقر الجريدة وانه الان متوجه اليه . قمت طبعا بترجمة ذلك للوفد الصحفي البلغاري , فاعلن رئيس الوفد رأسا انه مستعد للانسحاب من اللقاء نتيجة لذلك , الا ان رئيس تحرير جريدة الثورة رفض ذلك وقال انهم هنا حسب موعد محدد ومسبق , ولهذا طلب منهم البقاء هنا الى حين توضيح الموضوع , ودخل مرتضى الحديثي بعدئذ , وفوجئ بوجود الوفد الصحفي البلغاري , اذ لم يخبره السكرتير بذلك طبعا , وقال رأسا انه جاء بدون موعد , لهذا يرجو الاستمرار بالحوار , وجلس بهدوء في مكتب طارق عزيز ليس الا . أكمل الوفد البلغاري اللقاء( بشكل مستعجل طبعا) وخرجنا جميعا من المكتب , واخبرني الصحفيون البلغار انهم معجبون جدا بالموقف الديمقراطي والبسيط جدا لمرتضى الحديثي – وزير خارجية العراق آنذاك , وانهم سينقلون هذا الموقف وسيتحدثون حوله في الاوساط البلغارية حتما, وانهم سعداء جدا لانهم كانوا – وبالصدفة – في موقف أتاح لهم هذه الفرصة الفريدة .
النقطة الثانية – بالنسبة لي – حول الحديثي ترتبط بما حدثٌني به يوما صديقي حسين محمد سعيد الحسيني في موسكو (زميل الدراسة في كليٌة الآداب بجامعة موسكو في ستينيات القرن العشرين) . لقد كان حسين واحدا من ابرز العراقيين الذين يتقنون اللغة الروسية ويعرف اغوارها واسرارها قراءة وكتابة ونطقا وقواعدا.. , اضافة الى انه مثقف كبير , ومتحدٌث رائع ,
ورجل مرح ومحبوب جدا من قبل الجميع , وقد عمل مترجما في السفارة العراقية بموسكو عندما كان مرتضى الحديثي سفيرا هناك , ومن الطبيعي انه أصبح المترجم الشخصي للسفير , وقد أصبحا ( الحديثي وحسين ) قريبين من بعضهما , بل يمكن القول انهما اصبحا صديقين بشكل او بآخر . وعندما زار نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزت الدوري موسكو في تلك الفترة , اخبر مرتضى الحديثي المترجم حسين محمد سعيد – سرٌا – ان ينتبه كيف سيسخر منه عند اللقاء معه , وفعلا , طرح عليه عند اللقاء السؤال الآتي – ( هل أتيت الى موسكو من ألدور ؟) , فقال عزت – ( لا , لا , لقد سافرت الى بغداد , ومن هناك سافرت الى موسكو ) . نظر مرتضى الى حسين بشكل خاطف اثناء ذلك , وفهم حسين طبعا مغزى هذه النظرة الخاطفة من سفير العراق .
تذكرت هاتين الحادثتين حول مرتضى الحديثي وأنا أقرأ مقاطع من مقالة كتبها الاستاذ خالد حسين سلطان ونشرها في موقع صحيفة ( المثقف ) الغراء بعنوان ( ولادة في غرفة اعدام ) وتحدث فيها عن رواية الدكتور سعد العبيدي الموسومة – (حفل رئاسي …وقائع غير مروية من احداث مجزرة قاعة الخلد 1979 ) الصادرة في بغداد , وقد جاء في تلك المقالة ما يأتي-
… الرواية تخوض باحداث واقعية وباسماء صريحة ومنتحلة ( حسب رغبة الشهود الاحياء ) عن ما جرى في بغداد …. عام
1979 وتصفية الخصوم والمناوئين وبحسابات واجندات غريبة عجيبة , وهو ما يعرف ب ( مجزرة قاعة الخلد )….ويأتي بعدئذ مقطع تفصيلي مكتوب باسم الحديثي يصف كيف اتصل به هاتفيا وزير الخارجية العراقية وتأكيده على ضرورة الحضور الى بغداد فورا لمقابلة الرئيس .. ثم يضيف ( فاتني ان أذكر – وبعد اتصال الوزير بدقائق – وصلني تلكس من الرئيس السوفيتي بريجنيف , بعبارات محددة – ( لا تذهب الى بغداد , توجه الى موسكو ضيفا عزيزا , الكي جي بي لديها علم بالتصفيات التي ستجري في البلاد ) , لم أعر الموضوع اهتماما , وان أقلقني حقا ..), ثم يشرح مؤلف الرواية بعد ذلك – كيف ان الحديثي اتصل هاتفيا بعد وصوله الى بغداد – بعزت الدوري وحامد الجبوري لجمع التفاصيل , وكيف انه ( لم يفهم منهما شيئا , وألحٌ كلاهما على ضرورة الذهاب الى الرئيس اليوم قبل الغد ..) …وحدث الذي حدث …
من الطبيعي انني توجهت الى الذين تابعوا كل تلك االوقائع مستفسرا عن مسيرة تلك الاحداث , لما لها من علاقة مباشرة بطبيعة مقالاتي حول العراقيين الذين مروا بموسكو , والاستفسار منهم حول صحة ما جاء في تلك الرواية , فقال لي احد ابناء المرحوم مرتضى الحديثي انه لا يستطيع ان يؤكد , ان بريجنيف نفسه ام لا قد كتب اليه ذلك كما جاء في الرواية, ولكن في اوساط العائلة يسود هذا الرأي ولحد الآن , وهو ان السوفيت قد أخبروه فعلا بعدم العودة الى بغداد لأن هناك
خطر تصفية جسدية , وانهم دعوه للسفر من مدريد الى موسكو ضيفا لديهم , ولكن من هو الذي ارسل له تلك الرسالة من موسكو الى مدريد , وكيف ارسلها اليه , ولماذا توجه مرتضى الحديثي الى بغداد من مدريد وليس الى موسكو … فانهم لا يعلمون بالتفاصيل حول ذلك .
وكم في تاريخ العراق من اسرار , ومن وقائع غريبة وعجيبة لا يمكن ان تخضع لمنطق الاحداث ومسيرتها !!!