التقيت الرسام التشكيلي حسين الجمعان بالصدفة في موسكو قبل ايام , وتحدثنا طويلا وتفصيلا وبشكل ممتع جدا . سألته طبعا قبل كل شئ عن انطباعاته ورأيه بشأن مقالتي عنه بعنوان – ( العراق في معرض تريتياكوفسكي بموسكو ) والتي كانت تدور حول معرضه الفني في تلك القاعة الشهيرة , اذ اني استلمت العديد من الرسائل والاستفسارات عن تلك المقالة. ابتسم حسين الجمعان وقال انها مقالة موضوعية و جميلة و شاملة وتتضمن معلومات مفيدة للقارئ العربي حول تاريخ تلك القاعة واهميتها في تاريخ روسيا الفني , لكنه لم يكن راضيا , بل وحتى اعترض على تسميته في تلك المقالة ب ( الفنان الشاب ) , فضحكت أنا وقلت له انه شاب بالنسبة لعمري وليس لعمره اولا , ثم انه لا زال (شابا من وجهة نظري ! ) في مسيرته الفنية ثانيا رغم كل النجاحات التي حققها في هذا المجال . استفسر حسين عن مضمون الرسائل التي استلمتها من القراء حول تلك المقالة , فأخبرته انهم كانوا يستفسرون كيف استطاع هذا الفنان ( الشاب !) ان يصل الى عرض لوحاته في تلك القاعة المعروفة والمشهورة عالميا ؟ فقال ان تلك القاعة قد عرضت فعلا لوحات رساميين تشكيليين عراقيين كبار قبله مثل محمود صبري وخالد الجادر وغيرهم في زمن الاتحاد السوفيتي , وانه عرض لوحاته هناك بفضل (الاتحاد الدولي لدعم الفنانين ), والذي اصبح عضوا فيه بعد مشاركته في معرض روسي في بيت الصداقة بموسكو في حينها , وكان رئيس هذا الاتحاد حاضرا في ذلك المعرض واعجبته بعض اللوحات ذات الطابع الشرقي البحت وتناسق الحروف العربية الجميلة في ثناياها , والتي اقتنى بعضها , واقترح عليه الانتماء الى هذا الاتحاد , وهكذا اصبح حسين الجمعان عضوا فيه , وقد ساعده ذلك الاتحاد على توسيع نشاطه الفني والمشاركة في معارض عديدة في روسيا وحتى خارجها , ومنها تلك المشاركة في معرض باحدى قاعات
متحف تريتياكوفسكي الشهير بموسكو , والذي كان يهدف لمناهضة الارهاب العالمي والمشاركة بالعمل ضده , وانه اشترك بلوحة عنوانها – ( حمورابي ضد الارهاب ) , والتي فازت بالجائزة الثانية عندها , والتي كان من المفروض ان يسافر مع تلك اللوحة الى الفاتيكان للمشاركة في مسابقة عالمية هناك ولكن مرضه – مع الاسف – حال دون ذلك .
حسين الجمعان – عراقي أصيل من منطقة الوشاش الشعبية المعروفة في بغداد, وهو فنان متعدد المواهب الفنية بلا شك , وأذكر انه ساهم بشكل هائل وكبير في حفل تدشين تمثال الجواهري النصفي في جامعة فارونش الروسية عام 2009 ,والذي أقامه مركز الدراسات العراقية – الروسية في تلك الجامعة عندما كنت رئيسا لذلك المركز , وكيف انه قدٌم في تلك الاحتفالية ( اضافة الى مساهمته الفعالة والكبيرة في معرض الفن التشكيلي العراقي المعاصر, الذي تم افتتاحه اثناء ذلك ) كلمة حول الجواهري , و قرأ مقطعا (على شكل اغنية على الطريقة العراقية ) من قصيدة الجواهري المشهورة – ( حييت سفحك عن بعد فحييني ,,, يا دجلة الخير يا ام البساتين ) , وأذكر ان المواطنة الروسيٌة الموظفة في جامعة فارونش تتيانا فاسيلفنا قد بكت وهي تستمع اليه , وسألتني بعد الحفلة , عن هذا المقطع الذي استمعت اليه , وعن هذا الذي ألقى – وهو يغنٌى بشجى – تلك الكلمات العربية عن الجواهري , فترجمت لها معاني تلك الكلمات وسالتها – لماذا بكيت وانت لم تفهي معاني تلك الكلمات , فقالت انها احست بحزنها العميق , وان طريقة الالقاء والاداء حرٌكت في اعماقها كل الحزن المتراكم في روحها وقلبها بفضل هذا الاداء الفني الرائع لحسين الجمعان , وقد كنت مندهشا جدا لكلماتها تلك ( وفخورا بها ايضا ) وأخبرت حسين الجمعان بها طبعا .
شاهدت الجمعان مرة اخرى في الحفل الذي أقامته السفارة العراقية بموسكو لمناسبة الذكرى ال (71) للعلاقات العراقية – الروسية ( انظر مقالتي بعنوان – العلاقات العراقية – الروسية ..71 عاما ), وكان آنذاك يقوم
بدور جديد بالنسبة لي ..لقد كان عريف الحفل عن الجانب العراقي جنبا لجنب مع الفنانة الروسيٌة , وكان متألقا وجميلا وهو يرتدي الوردة البيضاء مع بدلته الرسمية السوداء ويعلن بالعربية اسماء الفنانين المشاركين بتلك الحفلة الجميلة المتميٌزة وادوارهم وما سيقدموه لنا , وقد اعجبني هذا الدور الجديد له في مجال فني عراقي – روسي بموسكو وتلك الثقة الكبيرة بالنفس وهو يؤٌدي ذلك الدور امام جمهور عراقي – روسي كبير , رغم انه ( بعض الاحيان ) كان لا يلاحظ ( وسط هذا التوتر والضجيج ) انه ينصب المرفوع ويرفع المنصوب بعفويته وتلقائيته الجميلة , ولكن ذلك لم يعرقل ابدا تقبٌلنا له ونحن نستمع اليه ونصفق له بكل حب.
سألني أحدهم – من هو حسين الجمعان قبل كل شئ ؟ قلت له انه عراقي موهوب استطاع ان يكتشف نفسه ومواهبه في أجواء موسكو الفنية , بعد ان كان شبه مغمور في طرقات الوشاش في بغداد , وانه استطاع ان يعلن عن موهبته المتعددة الجوانب في موسكو بالذات , ولهذا فانه ابن بغداد الذي تفتٌح في موسكو وانطلق منها فنيٌا . كرر زميلي السؤال – ومع ذلك فمن هو قبل كل شئ ؟ قلت له هو فنان تشكيلي عراقي اصيل يتفاعل مع هواء موسكو ويتنفسه . دعونا نمنحه فرصة اثبات الوجود فنيا , اذ ربما سيعطينا نتاجات فنية جميلة ومبتكرة عندما تتكامل عملية مزج روحه العراقية الاصيلة بالروح الروسية , وهذه تجربة جديدة وفريدة جدا في تاريخ فنوننا العراقية , وهي تتناغم مع الفنون الروسية العريقة . لقد اقتنى ملك البحرين عملا فنيا له وهو عبارة عن (ماتروشكا ) روسٌية مرسوم عليها بورتريه , والعمل هذا موجود في مكتب الملك لحد الآن , وشاهدت صورة له عند الجمعان نفسه , عندما كنا نتحدٌث معا حول تاريخ الفن التشكيلي الروسي , ودراسته له , واعجابه الشديد به , وتأملاته بشأن امكانيٌة توظيفه في مسيرة الفنون التشكيلية العراقية .
دعونا نصفق له , ودعونا نتمنى له التألق وتحقيق النجاحات …