هذه هي الحلقة ( 11 ) من سلسلة مقالاتنا لمناسبة الذكرى السبعين على اقامة العلاقات العراقية – الروسية ( ايلول / سبتمبر 1944 – ايلول / سبتمبر 2014 ) , ونتناول فيها علما من أعلام الفن المسرحي العراقي المعاصر وأحد خريجي الجامعات السوفيتية وهو المرحوم الفنان المسرحي الكبير قاسم محمد .
قاسم محمد (1936 – 2009 ) – اسم معروف جدا في عالم الفنون المسرحية في النصف الثاني من القرن العشرين في العراق , تخرج في قسم المسرح ( كان يسمى في حينه – قسم التمثيل ) بمعهد الفنون الجميلة في بغداد نهاية الخمسينات وساهم بحماس في الحياة المسرحية العراقية آنذاك مع أبرز الفنانين العراقيين , ثم سافر في بداية الستينات الى موسكو ودرس الفنون المسرحية فيها بمعهد الفن المسرحي ( غيتيس ) المعروف عالميا , وساهم في النشاطات المسرحية بموسكو اثناء فترة دراسته ( ربما يمكن اعتباره العراقي الوحيد الذي قام باداء ادوار فنية على خشبة المسارح الروسية آنذاك وقد حدٌثني قاسم محمد مرة في بغداد عن ذلك بفخر واعتزاز كبيرين ) وانهى دراسته بموسكوعام 1967 وعاد الى العراق , واستمر بمسيرته المسرحية في بغداد , واصبح في نهاية المطاف واحدا من أبرز الفنانين المسرحيين العراقيين المشهورين في مجالات متشعبة عديدة في دنيا المسرح مثل الاخراج المسرحي والتأليف المسرحي واعداد النصوص المسرحية الاجنبية والتمثيل على خشبة المسارح وفي المسلسلات
التلفزيونية وحتى في بعض الافلام السينمائية, والكتابة في الصحافة حول الشؤون المسرحية المختلفة …الخ , وقد حاول استخدام دراسته المسرحية في موسكو بذكاء وتوظيفها لخدمة مسيرته الفنية في بغداد , ونجح بشكل باهرجدا في هذا المجال , ومن جملة المسرحيات الروسية التي أعدٌها وحورها على وفق المتطلبات العراقية والمشاكل المحلية يمكن الاشارة الى مسرحية أستروفسكي الشهيرة – ( مكان للربح ) , والتي قدمها بعنوان – ( الحب والربح ) وأعدٌها وصاغها بنكهة عراقية و جعلها وكأنها تعكس – وبكل معنى الكلمة – مشاكل عراقية كان (ولا يزال ) يعاني منها المجتمع العراقي , واستفاد جدا من التجربة الغنية للمسرح الروسي للاطفال , وقدٌم في اطار هذا العالم المسرحي الجميل مسرحية نالت نجاحا باهرا في الاوساط الفنية والشعبية العراقية وهي مسرحية ( طير السعد ), والتي تحدثت عنها الاوساط المسرحية العراقية طويلا وباعجاب واندهاش كبيرين لانها كانت خطوة جديدة فعلا – وفي غاية الجمال – في مسيرة المسرح العراقي عموما ومسرح الاطفال خصوصا , وكذلك استطاع – وبنجاح – تقديم البطل الذي يعرفه كل الاطفال في روسيا واسمه ( بوراتينو ) و أطلق عليه قاسم محمد اسم – ( الصبي الخشبي ) , وهو عمل رشيق ومرح جدا كتبه الكاتب الايطالي كولودي , وقدمه اليكسي تولستوي للاطفال بترجمة روسية جميلة , وهكذا استحوذ هذا العمل الفني على حب الاطفال الروس كافة , وحاول قاسم محمد ان ينقل هذه الظاهرة الفنية المتميزة الى اطفال العراق , ولكن واحدة من ابرز واكبر النقاط التي ترتبط باسم قاسم محمد بلا شك هي عمله الرائد والرائع في تحوير رواية غائب طعمه فرمان العملاقة ( النخلة والجيران ) واعدادها مسرحيا واخراجها وتقديمها للمشاهدين العراقيين على خشبة المسرح , وعلى شاشة التلفزيون , ويعد هذا العمل الفني قمة من قمم النجاح لقاسم محمد الفنان , ويرتبط هذا العمل بلا شك بموسكو ايضا , لانه ولد – كفكرة – في اطار علاقات الصداقة والود والاحترام المتبادل بين قاسم محمد وغائب طعمه فرمان الكاتب العراقي المقيم في موسكو , لهذا جاء هذا العمل المسرحي متناسق هارمونيا
ونجح بشكل منقطع النظير كما يقال لانه نتاج حوار ابداعي طويل بينهما , وتقبله الجمهور العراقي باعجاب شديد وحب حقيقيي , بل تحولت بعض عباراته الى امثال بين الناس , وكتب عنه النقاد والمهتمون بشؤون المسرح العراقي كثيرا من التعليقات والانطباعات , ولا زالت تظهر بين الحين والاخر ولحد الان تعليقات ومقالات تتناول هذا العمل الابداعي لقاسم محمد في بعض الصحف والمواقع الالكترونية الفكرية ( انظر ما كتبه الاستاذ قحطان السعيدي في جريدة ( الاتحاد ) العراقية بتاريخ 14 / 8 / 2013 تحت عنوان – ( وجهه نظر…النخلة والجيران رائعة المسرح العراقي ) وهي مقالة جميلة جدا , او ما كتبته الدكتورة سعاد محمد خضر في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 28/ 11 / 0122 تحت عنوان – (النخلة والجيران ) و هي مقالة تحليلية عميقة تناولت اضافات قاسم محمد الرائعة الى الرواية انطلاقا من فهمه وتفسيره الذاتي ووجهة نظره الخاصة تجاه رواية غائب طعمه فرمان المذكورة ) , وفي كل الاحوال , فان الحديث عن الفنان المسرحي الكبير قاسم محمد يجب ان يتناول تلك الاعمال المسرحية التي ارتبط بها وارتبطت به واصبحت الان ضمن الريبرتوار المسرحي العراقي المعاصر مثل – ( بغداد الازل بين الجد والهزل ) , و ( كان يا ما كان ) و ( الخرابة ) و ( الشريعة ) و ( الحلم ) و ( الباب ) و ( الخان ) و ( القربان ) و ( البيك والسايق ) و الكثير من المسرحيات الاخرى , والتي يجب التحدٌث عن كل واحدة منها وعن خصائصها و اهميتها وقيمتها الفنية في مسيرة المسرح العراقي والدور الرائد لقاسم محمد فيها , الا ان طبيعة المقالة طبعا لا تسمح بذلك .
اضطر قاسم محمد في سنوات الحصار ان ينتقل عام 1997 للعمل في الامارات العربية المتحدة , حيث استقر في امارة الشارقة , وهناك شغل مكانته اللائقة به باعتباره واحدا من الفنانين المسرحيين العرب الكبار في دنيا المسرح , أضافة الى اصداره كتبا هناك في مجال اختصاصه , كان آخرها الكتاب الصادر عن وزارة الثقافة في الشارقة بعنوان – ( اشتغالات بصرية شكسبيرية ). و يجب الاشارة في ختام هذه السطور الوجيزة عن
الفنان قاسم محمد الى انه قد حاز في مسيرته الفنية على جوائز تقديرية عديدة في العراق وبعض الدول العربية الاخرى تقديرا لجهوده الفنية في مجال المسرح . هذا وقد توفي المرحوم قاسم محمد في الامارات , وتم نقل جثمانه الى بغداد من قبل الدولة العراقية وتم استقبال الجثمان في مطار بغداد و تشييعه انطلاقا من بناية المسرح الوطني و دفنه في مقبرة الكرخ وسط اجواء تليق به و تتناسب واهميته وقيمته في دنيا الفن المسرحي العراقي , وقد جاء في نعي رئاسة الجمهورية له – (… قاسم محمد – فنان عراقي كبير أثرى بابداعاته القيٌمة مسيرة المسرح العراقي , وبرحيله فقد المسرح العراقي ركيزة من ركائزه الفنية والوطنية الرائدة …)