هذه هي الحلقة (12)في سلسلة مقالاتنا عن العراقيين الذين مروا بموسكو , والتي اكتبها بمناسبة الذكرى السبعين على اقامة العلاقات العراقية – الروسية ( ايلول / سبتمبر 1944 – ايلول / سبتمبر 2014 ) , والحلقة هذه مكرسة لاحد خريجي الجامعات السوفيتية وهو القاص والروائي والصحفي والمترجم الاستاذ المرحوم غازي العبادي ( 1935 – 1998 ) .
ضياء نافع .
غازي عباس محسن العبادي وصل الى موسكو عام 1960 لدراسة اللغة الروسية وآدابها , بعد ان كان يدرس معنا في معهد اللغات العالي بجامعة بغداد عام 1959 ( كان طالبا في قسم اللغة الفرنسية , ولكنه قرر ان ينتقل الى الاتحاد السوفيتي لدراسة الادب الروسي ) , وقد كنا آنذاك في موسكو قبله بعدة أشهر ليس الا , وقد استقبلناه طبعا بالاحضان , و سبق لي ان تكلمت عن كل ذلك وبالتفصيل في كلمتي التي القيتها في اتحاد الادباء ببغداد اثناء جلسة التأبين لغازي العبادي في حينها عام 1998, والتي قررت ان اتوجه في مستهلها الى ارملته التي كانت حاضرة آنذاك السيدة راجحة يونس العاني ( توفيت في بغداد بتاريخ 25 / 5 / 2014 ) وابناء غازي وهم ضفاف وسهيل وزيد, رغم ان معظم من تكلموا آنذاك توجهوا في مستهل كلماتهم الى رئيس تحرير جريدة القادسية و رئيس اتحاد الادباء آنذاك والذي كان حاضرا في تلك الجلسة . لقد نشرت كلمتي عن المرحوم غازي العبادي في جلسة اتحاد الادباء آنذاك في مجلة الاقلام العراقية , وفوجئت – يوما – بمجئ احد القادمين من الاردن الى مكتبي في كلية اللغات واعطاني 20 دينارا اردنيا قائلا ان هذا المبلغ ارسله الاستاذ
الدكتور حسين جمعة ( زميلنا الاردني الذي كان يدرس معنا في كلية الاداب بجامعة موسكو) لانه نشر مقالي عن غازي العبادي مرة اخرى في جريدة اردنية , وان هذا المبلغ هو مكافأة الجريدة لي , وطلب الدكتور حسين ان يكون هذا المبلغ مناصفة لي ولابنته ضفاف غازي العبادي التي كانت تعمل معنا في الكلية . لقد كان هذا المبلغ كبيرا في زمن الحصار آنذاك في العراق , وقد اعطيت نصفه طبعا في حينه لابنته ضفاف باسم الدكتور حسين جمعة , والذي كان يعرف غازي العبادي حق المعرفة.
بقي غازي في موسكو حتى عام 1965 , وانهى دراسته بنجاح وحصل على شهادة الماجستير في اللغة الروسية وآدابها ,وكان محبوبا من قبل جميع العراقيين والعرب والاجانب والروس طلبة واساتذة وادارة , ولم يكن يتدخل بالقضايا السياسية الملتهبة عادة بين اوساط الشباب والطلبة آنذاك , ولم يكن محسوبا سياسيا على الفئة الفلانية او الفئة الفستانية , وعاد الى العراق رأسا ومباشرة بعد انهاء دراسته دون ان يحاول الاستمرار بالدراسات العليا كما حاول معظم الخريجيين العراقيين آنذاك ( وكان يمكن له ان يبقى طبعا لو أراد ذلك ), واستطاع بنشاطاته الادبية والترجمية ان يحصل على عمل في جريدة الثورة – لسان حال حزب البعث العراقي وان يبقى مع ذلك خارج نطاق الحياة الحزبية العراقية في حينها , وعندما حاول البعثيون ان يجبروا الاخرين على الانتماء الى حزبهم , لم يقتربوا من غازي ولم يقترب غازي منهم , وربما كان هو العراقي الوحيد الذي واصل عمله في تلك الجريدة الحزبية باعتباره مستقلا حزبيا ليس الا, اذ انه فرض احترام استقلاليته وشخصيته على الاخرين برقته وعفٌة لسانه وصدقه واخلاقه وشهامته وتواضعه وبساطته وشفافيته واخلاصه بالعمل وعلميته وصدق ووضوح علاقاته مع كل المحيطين به دون تملق او رياء وبكل الصفات الاخرى التي كان يتميز بها عندما كان طالبا في موسكو , و ذكرت ذلك في كلمتي عنه في اتحاد الادباء تلك وامام الجميع الذين اشرتم اليهم اعلاه . وقد اطلعت في عام 2012 على مقالة الاستاذ عبد الجبار العتابي في موقع ( ايلاف ) الشهير وتحت عنوان مؤلم وهو – ( غازي
العبادي .. ليس لديه من يستذكره ) , والذي يتحدث عن المرحوم غازي وكيف ان ذكرى رحيله مرٌت دون استذكار , وقد توقفت عند كلمة الاديبة عالية طالب التي حددت صفات غازي ب – ( المبدع الجميل الراقي ) , وهي صفات دقيقة وحقيقية فعلا , وجاءت – بلا شك – نتيجة معرفة عميقة به حتما .
لقد نشر غازي العبادي مجموعتة القصصية الاولى عام 1969 في بغداد بعنوان – ( حكايات من رحلة السندباد الثامنة ) , والتي اهداني نسخة منها في بغداد . انها المجموعة التي عكست انطباعات غازي عن موسكو , وحتى عنوانها كان انعكاسا لذلك , اذ انه اعتبر رحلته الى موسكو هي الرحلة الثامنة للسندباد بعد رحلاته السبع الشهيرة , بل انه أشار هناك حتى الى اسم حبيبته الروسية التي عشقها هناك وهي زويا , وقد تكلمت ضاحكا مع ابنته ضفاف – بحكم ميانة الاب لابنته – مرة عنها , فضحكت ضفاف وقالت انها وامها تعرفان هذه القصة , بل اني ذكرت ذلك في كلمتي عن غازي في تأبينه في اتحاد الادباء ببغداد آنذاك , اذ قلت له باني سأتصل بها هاتفيا لكي يتحدث معها وعندما أشار الي ٌ بعدم ضرورة ذلك , قلت له انني أخذت السماح بذلك من ام ضفاف , وقد قهقه غازي آنذاك من كل قلبه في لقائي الاخير معه في بيته في منطقة العامرية ببغداد , وأذكر الان – ولاول مرة – ان غازي في احدى زياراته لموسكو قد اتصل هاتفيا بها , وعندما أجابت زويا بكلمة – نعم , اغلق خط الهاتف , وبرر غازي هذا الاتصال الهاتفي على الطريقة العراقية وحسب كلمات اغنية ناظم الغزالي عن ( الرغيف الذي يكفيه سنه !) بانه اكتفى بسماع صوتها ليس الا .
حاولت – عندما كنت معاونا لعميد كلية اللغات – ان اصدر كتابا بعد وفاته بعنوان – غازي العبادي مترجما ( وهي فكرة لازالت متوهجة في قلبي ), وجمعت فعلا مقالات بترجمة غازي العبادي عن الروسية , نشرها في صحيفة الثورة بالاساس ( ومنها بعض القصائد الروسية الجميلة ) وفي عدة مجلات اخرى , منها مجلة الاقلام العراقية ( واذكر منها مقالة عميقة عن
رواية دستويفسكي – الاخوة كارامازوف وفلسفتها ) وقد ساعدتني بشكل واسع ومتحمس في جمع هذه المواد ابنته ضفاف العبادي , ولكن الاحداث السريعة التي حصلت في العراق حالت دون ذلك مع الاسف , اذ تم تدمير كلية اللغات ومكاتبها كليا , وهكذا فقدنا الكثير من الوثائق في حرب عام 2003 واحداثها الجسيمة , ومن جملتها مسودات الكتاب الذي كان شبه جاهز عن غازي العبادي وبالعنوان المذكور اعلاه والذي كان موجودا في مكتبي , ولكن يجب الاشارة – مع ذلك – الى انني لم احاول آنذاك ان تدخل في محتويات هذا الكتاب ترجمة غازي لكتاب – العرب والبحر , والذي حاول غازي مرة ترجمته ونشره ضمن منشورات وزارة الثقافة والاعلام العراقية , وكنت انا المراجع الذي كان يجب ان أطلع على الترجمة واوافق عليها , ولكني , عندما قارنت النصين الروسي والعربي اضطررت ان اتصل بغازي وقلت له – بحكم علاقة الصداقة العميقة معه – ان هذا الكتاب صعب جدا على الترجمة الى العربية في ظروف العراق آنذاك, واننا لا نستطيع القيام بذلك حفاظا على القيمة العلمية الفذٌة لهذا الكتاب , وقد تقبل غازي هذا الرأي برحابة صدر وروح رياضية واعاد النقود التي دفعتها له وزارة الاعلام العراقية كدفعة اولى لتلك الترجمة , الا انه مع ذلك نشر فعلا بعض الفصول المختارة من ذلك الكتاب في الصفحة الثقافية لجريدة الثورة , والتي كان يعمل فيها كما ذكرنا اعلاه .
أصدرالمرحوم غازي العبادي الكثير من الكتب اثناء حياته واصبح واحدا من الادباء العراقيين المعروفين آنذاك , وتشير بعض المصادر العراقية الى انه نشر 140 قصة قصيرة , وانه أصدر مجاميع قصصية عديدة (آخر مجموعة صدرت له بعد سنتين من وفاته ) , الا اني أود – في ختام هذه السطور عنه – ان أشير الى محاولاته بكتابة الروايات , اذ اصدر غازي عدة روايات مهمة في تاريخ الادب العراقي الحديث , اولها كانت رواية – ما يتركه الاحفاد للاجداد , والتي استقبلتها الاوساط الثقافية العراقية بالترحاب , وكتب عنها الدكتور علي جواد الطاهر في حينه , ثم اصدر روايات اخرى منها – نجمة في التراب ورجل في المحاق , وهناك رواية
كان غازي يتحدث عنها في الفترة الاخيرة من حياته , واذكر انه قال لي مرة انه يريد ان يسميها – سلسلة أخطاء, ولكن معظم المصادر عنه تشير الى عنوان آخر لهذه الرواية التي لم يستطع – مع الاسف – ان يكملها و ينجزها وهو – ابناء الزمن الآيل للسقوط , وكم يبدو هذا العنوان الان رمزيا وواقعيا بالنسبة لنا ونحن نعيش في هذا الزمن الآيل للسقوط فعلا , وكم يبدو غازي العبادي عميقا في صياغته لهذا العنوان الذي اختاره – وبدقة – وكأنه كان يتنبأ بالمستقبل ويتأمله قبل اكثر من عقدين تقريبا من زماننا الردئ هذا .
غازي العبادي – واحد من الشخصيات الجميلة والكبيرة والمشرقة والرائعة في مسيرة العراق المعاصر , والذي يرتبط – بلا ادنى شك – بهؤلاء الذين مروا بموسكو وتبلوروا فكريا في مناخها واجوائها .