23 ديسمبر، 2024 12:11 م

عن بعض العراقيين الذين مروا بموسكو (10 )

عن بعض العراقيين الذين مروا بموسكو (10 )

هذه هي الحلقة العاشرة في سلسلة مقالاتنا حول العراقيين الذين مرٌوا بموسكو , والتي أكتبها لمناسبة الذكرى السبعين لاقامة العلاقات العراقية – الروسية في ايلول / سبتمبر 2014 , والحلقة هذه مكرٌسة لواحد من أعلام العراق المعاصر من خريجي الجامعات السوفيتية وهو الدكتور المرحوم حسين قاسم العزيز .
الدكتور حسين قاسم العزيز (22 19 – 9519 ) – واحد من الاسماء الشهيرة جدا والمعروفة في العراق المعاصر وعلم من اعلامه الكبار , فهو مؤرخ شهير واستاذ لامع في قسم التاريخ بكلية الاداب في جامعة بغداد , وصحفي بارز في دنيا الصحافة العراقية , اذ كان رئيس تحرير صحيفة ( الفكر الجديد ) الاسبوعية , التي كان يصدرها الحزب الشيوعي العراقي آنذاك في السبعينات من القرن العشرين . التقيته في جامعة موسكو بداية الستينات من ذلك القرن , وكان بالنسبة لنا – نحن طلبة الدراسات الاولية آنذاك – يبدو مهيبا ومتقدما بالسن مقارنة معنا ولا يمكن ان يكون بالطبع زميلا او صديقا لنا , وكنا نعامله باحترام وتقدير كبيرين , وكان هو يقابلنا بنفس ذلك الاحترام و الشعور , وكان هادئا ومحترما بتصرفاته وطريقة حياته وبعيدا جدا جدا عن الثرثرة التافهة والقيل والقال التي كانت تسود – مع الاسف – الاوساط العراقية الطلابية عندها , وكنا نعرف انه كان مدرسا في المدارس العراقية لمادة التاريخ العربي الاسلامي , وانه كان حتى مديرا لاحدى تلك المدارس , وانه خريج دار المعلمين العالية المعروفة بمستواها العلمي الرفيع في اواسط الاربعينات من القرن العشرين , ولم تكن معرفته باللغة الروسية عندما كان في موسكو واسعة وعميقة , وربما كان هذا نتيجة تقدمه بالعمرنسبيا وعدم اختلاطه الواسع بالطلبة الروس من حولنا كما هو الحال بالنسبة لنا في مرحلة الشباب , ونتيجة ايضا لطبيعة دراسته في قسم الدراسات العليا و المرتبطة بالتاريخ العربي بلا شك , ولكنه – مع ذلك – استطاع ان يستخدم المصادر الروسية بدراسته وكتابة اطروحته حول التاريخ العربي آنذاك , وحتى ان يترجم وينشر بعض المصادر الروسية الخاصة بذلك الاختصاص بعد عودته الى العراق , وابرز نقطة في مسيرة حسين قاسم العزيز واكبرها بلا ادنى شك تكمن في انه كان واحدا من القلائل جدا , بل المعدودين على اصابع اليد كما يقال , بين خريجي الاتحاد السوفيتي الذي نشر اطروحته بالعربية بعد عودته الى العراق , وكان عنوانها – ( البابكية او انتفاضة الشعب الاذربيجاني ضد الخلافة العباسية

) ( تم طبعها عدة مرات وظهرت بطبعات مختلفة حتى بعد وفاته ) , والتي أثارت ضجة هائلة جدا في اوساط المؤرخين والمثقفين العراقيين آنذاك ونقاشات واسعة ومثيرة وصاخبة حولها , ويمكن القول ان هذه الضجة لم تهدأ لحد الآن , ولا مجال هنا بالطبع لعرض الآراء المختلفة والمتناقضة بل و حتى المتصارعة – ان صحٌ هذا التعبير – حول موضوعة هذه الاطروحة , بما فيها كتاب الاستاذ حسن العلوي حول ذلك في مؤلفه الشهير – ( دماء على نهر الكرخا ) , و قد أخبرني أحد زملائي مرة , ان كتاب حسين قاسم العزيز هذا حول البابكية أصبح مرجعا معتمدا ومصدرا مهما جدا في جامعات الغرب الكبرى التي تدرس تاريخ العرب و المسلمين في العالم , ولكني لست متأكدا من ذلك ولا استطيع ان اتحدث حول هذا الموضوع بشكل دقيق وتفصيلي , رغم ان زميلي ذاك علٌق على هذا الخبر آنذاك قائلا , ان تلك الجامعات كانت سعيدة بهذا الكتاب لأنه جاء من باحث عراقي بالذات , ولكني أذكر مرة , اننا كنا في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد , عندما كنا نحاول ان نضع قاموسا روسيا – عربيا وجيزا يتضمن المصطلحات السياسية للطلبة , وتوقفنا عند مصطلح – ( شعب ), وطرحنا صفات عديدة لهذا الاسم , ومنها طبعا – الشعب العراقي , فاعترض البعض وقال انه يجب كتابة مصطلح ( الشعب العربي في العراق ) انسجاما مع المفهوم السياسي للدولة العراقية وحزب البعث الحاكم آنذاك , وتشعب النقاش طبعا , فقال أحد الزملاء – لماذا نسمح للدكتورحسين قاسم العزيز ان يطرح مصطلح (الشعب الاذربيجاني ) في زمن الخلافة العباسية , عندما لم يكن هناك مثل هذه التسمية اصلا في ذلك الزمان البعيد, ولا نسمح بمصطلح الشعب العراقي في الوقت الحاضر؟ وقد أثار هذه التساؤل ردود فعل كبيرة فعلا , وانعكس هذا الطرح طبعا في تصرفاتنا واعمالنا في قسم اللغة الروسية آنذاك , وكل ذلك ارتباطا بذلك الكتاب المهم طبعا.

لقد نشر الدكتور حسين قاسم العزيز العديد من الكتب المهمة في اختصاصه , و منها على سبيل المثال وليس الحصر – موجز تار يخ العرب والاسلام // التطورات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية لعرب شبه الجزيرة قبل الاسلام // دور المراكز الثقافية في تفاعل العرب والمسلمين الحضاري // المفصل في نشأة نوروز الذهنية الابداعية // , وهناك طبعا الكثير من البحوث العلمية التي نشرها الدكتور حسين قاسم العزيز , ومنها بحثه المهم والكبير الذي نشره عندما كان طالبا في قسم الدراسات العليا بجامعة موسكو ( وكان هناك الكثير من المعجبين بالبحث وبطرحه الشجاع في حينه ) في مجلة ( الغد ) ((( العدد 3 / تموز 1964 و كانت تصدرها حركة الدفاع عن الشعب العراقي برئاسة الشاعر الكبير الجواهري , والتي تأسست بعد انقلاب 8 شباط 1963 الاسود , وساهم في ذلك العدد الدكتور صلاح خالص والدكتور فيصل السامر وغائب طعمه فرمان ومحمود صبري وصادق الصايغ وغيرهم ) )) وعنوان البحث هو – ( الشعوبية ) , حيث ناقش فيها آراء المؤرخ الكبير المرحوم الاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري حول هذا المصطلح التاريخي والسياسي , والذي لازال مطروحا بشكل حاد جدا – و بكل معنى الكلمة – في الاوساط الفكرية والسياسية العراقية خصوصا و العربية عموما و لحد الان.

ختاما أود الاشارة و الاشادة ايضا بما كتبه الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف – الشخصية العراقية العلمية المعروفة في مساهماتها برصد وتسجيل ودراسة اعلام المؤرخين في العراق – حول الدكتور حسين قاسم العزيز , و الذي حدد – وبموضوعية عالية ورائعة جدا – دوره وافكاره في مسيرة الدراسات التاريخية في العراق آنذاك , اذ ان الدكتور حسين قاسم العزيز كان ينطلق فعلا – كما كتب الدكتور العلاف وهو على حق – في كل طروحاته العلمية من موقفه الماركسي الواضح والصريح والذي كان يؤمن به وباخلاص ( يسميه العلاف – المادية الديالكتيكية ) , بل يمكن القول ان الدكتور حسين قاسم العزيز كان ماركسيا صريحا وعلنيا في كل كتاباته , ولم يكن يحاول ابدا – بشكل او بآخر – ان يخفي ذلك بتاتا , كما فعل الآخرون …, وقد اعتقلته السلطات العراقية البعثية نتيجة لذلك في اواخر حياته وأخذوه مباشرة من قسم التاريخ في كلية الاداب بجامعة بغداد , وأثار اعتقاله ذلك ضجة هائلة آنذاك في اوساط الكلية – اساتذة وطلبة , وعندما عاد بعد أيام الى قسم التاريخ بالكلية المذكورة , حاول الدكتور حسين قاسم العزيز ان يعلن ان الامور كانت طبيعية جدا ( وكنت أنا شخصيا من ضمن الذين زاروه في قسم التاريخ للتهنئة بعودته سالما بعد حادثة اعتقاله الرهيبة من قبل قوات الامن العراقية , وقد سألته بشكل مباشر – هل تعرض للتعذيب او شئ من هذا القبيل , فأخبرني ان كل الامور طبيعية وانه لم يتعرض لاي شئ اثناء اعتقاله , واطلقوا سراحه بعد حوار طويل معه ) , لكن البعض أشار الى ان ذلك لا يتطابق ولا ينسجم ابدا مع الواقع العملي والتطبيقي للسلطة البعثية آنذاك واجهزتها الامنية تجاه هذا الامر بتاتا , وان الدكتور حسين كان مجبرا ان يعلن ذلك , وقد أخبرتني المرحومة الاستاذة الدكتورة حياة شرارة ( زميلتي في قسم اللغة الروسية في كلية الاداب بجامعة بغداد ) ان أحد أقرب الاصدقاء طلب منها ان تكون حذرة جدا , لأن الدكتور حسين كان مجبرا ان يقول لاجهزة الامن تلك كل ما يعرفه حول الجميع في الكلية , بما فيهم طبعا الدكتورة حياة , واذكر انها كانت مرعوبة جدا آنذاك , وكانت تحدثني همسا تقريبا , وقد حاولت ان أغيٌر جدول دروسها الاسبوعي في قسم اللغة الروسية كي تستطيع التحرك بشكل افضل واكثر امانا وحيطة.