مثلما يتوق العاشق إلى قرب المعشوق هكذا هم عشاق الكتب، يحلمون بالكتب التي قرأوا عنها أو سمعوا بها ويتمكن منهم الشغف كما يتمكن الهوى من المحبين في قصص الحب العظيمة؛ فنجدهم يتسقطون أخبار الكتب ودور النشر ويحلمون بالكتاب الجديد ويتشهون رائحة أوراقه و يلاحقون الكتب النادرة في مظانها ولدى مقتنيها وباعتها، يتفحصون الفهارس والفصول بعيون مبهورة وهم يغصون بالمتعة وتفيض البهجة من أرواحهم التي ارتوت وعقولهم النهمة التي اغتذت من كنوز المعرفة.
خلال النصف الأول من القرن العشرين وربما بعد انتصافه ماكانت الكتب ميسورة للشغوفين بها في الأرياف والقرى بخاصة في بلداننا الفقيرة ، وإن حظيت بعض القرى بمكتبات صغيرة فسوف يعيق العوز وضنك العيش الحصول على الكتاب المبتغى عندما تتقدم ضرورة لقمة الخبز وجرعة الدواء على اقتناء كتاب لايشبع جائعاً ولايشفي علة كما يرى المكافحون الذين كانوا بالكاد يتدبرون مايقيمون به أود الأحياء.
2
يخبرنا مو يان الروائي الصيني حائز نوبل للآداب في حوار ترجمته له وظهر في كتابي (فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة – المدى) عن الحرمان من الكتاب واللقمة في الريف الصيني:
(كانت الكتب من الأشياء النادرة التي يصعب اقتناءها في الريف الجائع، وكنا نحضر وجبتنا الوحيدة بطحن حبوب الذرة بالرحى الحجرية اليدوية، وكان لأحد أصدقائي كتاب قصة مصورة (كومكس) فكنت أذهب لأعمل عندهم بتدوير الرحى مقابل أن أقرأ القصة وكان صديقي يقرأ لي صفحة واحدة مقابل كل دورة لحجر الرحى، أو يتركني اقرأ فيها وأنا أدير الرحى.. وبعدها بدأت أجوب القرى المجاورة بحثاً عن الكتب لدى من يملكونها، فأمضي نهاراتي أقرأ في بيوتهم ثم أعود إلى قريتي مسحوراً).
3
كنت شخصيا في صباي أهرّب الكتب التي يحضرها لي أبي وارتقي الدرجات الى سطح البيت كل مساء متسللة كسارقة، فقد منعتني جدتي من القراءة على ضوء القمر خشية اعتلال بصري، كان سريري تحت ظل نخلة تنشر سعفها فوق أطياف رؤاي وشخوص قصصي التي أكتبها في دفاتري المدرسية وتتدلى عذوق تمرها فوقنا، اعتادت الحمائم أن تبني أعشاشها بين سعف النخلة كل ربيع وصيف؛ فكنت أقرأ مغمورة بنور القمر ويؤنسني هديل الحمام ويدهشني احتراق الشهب، وإذا ماغاب القمر في محاقه صيفاً، أعمد إلى اصطياد حشرات اليراعات المضيئة وأضعها في زجاجة مغلقة لتمسي مصباحاً منيراً يرسل ومضاته في عتمة الليل، كانت اليراعات تنطلق من قلب ثمار التفاح الأبيض في البساتين وتهيم ليلاً فوق البيوت معلنة عن نفسها بضوئها الفوسفوري غير آبهة بخطر القنص والموت مثلما يفعل المفكر وهو يبوح بفكرة غير مسبوقة تعرضه للمخاطر وانزال العقاب لخروجه على مألوف ما اعتاده الناس .
4
عندما تعرضت سفينة روبنسون كروزو لعاصفة في المحيط وتحطمت على شاطئ جزيرة موحشة جمع كروزو من حطام سفينته بعض البقايا عينات قليلة من الأطعمة ودواة حبر وأقلاماً وبضعة كتب ولم يأبه أول الأمر بهذه الكتب، كان خائفاً من الموت جوعاً وسط العراء وعندما طمأنت بقايا الطعام التي عثر عليها حاجته للبقاء، التفت الى الكتب القليلة التي وجدها في الحطام، ولم يكن به حاجة للتعلم قدر حاجته لطمأنة القلب: فتح كروزو الكتاب المقدس وقرأ ( لن أتركك وحدك ولن أتخلى عنك) فأدرك أن النداء موجّه اليه ليشرع ببناء عالمه الجديد من تلك البقايا القليلة : بضعة بذور وكتاب وبنادق، الحياة والكلمة والقوة.
نقلا عن المدى