9 أبريل، 2024 6:36 ص
Search
Close this search box.

عن الكتائب الإلكترونية كفاعل سياسي جديد

Facebook
Twitter
LinkedIn

تعكس فاعلية الكتائب الإلكترونية أزمة في مفهوم الحقيقة داخل العمل السياسي، حيث يكفي أن يردد الكذبة السياسية بضع عشرات حتى تبدو كأنها حقيقة يقينية لا يكتنفها غبار.

ليس يخفى أن بعض الدول قد فكرت بادئ الأمر في إنشاء كتائب إلكترونية لغاية حماية الحاكم وتحصينه من النقد العمومي، لكنها على الأرجح لم تتماد في الأمر زمنا طويلا، لربّما توجسا من أن ينقلب السحر على الساحر، أو يرتدّ السيف إلى نحر صاحبه، أو يخرج المارد من قمقمه وينفلت من عقاله.

والحق يقال، يسجل للإسلام السياسي أنه أحرز قصب السبق في هذا المضمار، وحقق اختراقا لا يشق له غبار، بدءا من داعش في أول الأمر والذي نسج شبكات إلكترونية كونية للدعوة والقتال، ثم وصولا إلى باقي فصائل الإسلام السياسي في الحساب الأخير والتي جنّدت أصوات الدعاية الانتخابية مستفيدة على الأرجح في بادئ الأمر من فرصة أن تبدو للآخرين كأنها أخف الأضرار، ومستفيدة كذلك من قابلية عشرات الشباب للتجنيد القتالي، ممن إذا لم تجندهم مؤسسات الدولة لغايات وطنية، ستجندهم شبكات بديلة تمنحهم فرصة تفريغ “المكبوت الجهادي” دون تعريض أجسادهم لمخاطر تُذكر، إنه بمعنى آخر، الجهاد الناعم، مصطلح يستحق النظر بعين الدرس والاختبار.

ثم أن الكتيبة قد تعمل أحيانا تحت مظلة تنظيمات تتمتع بالمشروعية القانونية، فضلا عن المشروعية الانتخابية، بحيث يصير التنظيم في حل من تهورها متى تهورت أو تخطت بعض الخطوط الحمراء. وفعلاً، صار بوسع الكتائب الإلكترونية أن تلبي حاجيات المتخيل الجهادي بطبعة إلكترونية أنيقة: الاختراق، الإنزال، التبليغ، الحملة، الأسماء المستعارة، الدعاية، إلخ. وهو ما كان يبدو لبعض القراءات كأنه تفريغ لا بأس به طالما لا يمثل تهديدا آنيا للأمن العام، أو يمكن توجيهه نحو مراكز توتر محددة كما توهم آخرون.

المحصلة أن الإسلام السياسي امتلك في مجال التجنيد الإلكتروني الغلبة والتمكين بلا منازع يُذكر، حتى أنه في بلد مثل المغرب لم يعد الناس يذكرون اسم الكتائب الإلكترونية إلاّ بالإحالة المباشرة والدلالة القطعية على كتائب حزب العدالة والتنمية الحاكم. أما في تركيا فبعد فترة من التوجس التي حكمت نظرة أردوغان إلى مواقع التواصل الاجتماعي، سرعان ما تبدل الحال، لتتناسل كتائب أردوغانية ستشكل قوته الضاربة حتى بين صفوف مسلمي أوروبا، وكثيرون من هؤلاء ما عادوا يفهمون من كلامه الموجه إلى الجالية التركية سوى كلام موجه إلى كافة المسلمين المستضعفين على وجه البسيطة. لعبة سهلة قد يلعبها رجل السلطة أحيانا لكنها خطرة بكل المقاييس. وبلا شك، فقد كانت الكتائب الإلكترونية السلاح الذي منح أردوغان فرصة التمكين، متحولا في الاتجاه المعاكس من رجل دولة يحترم المؤسسات إلى زعيم شعبوي يقود القطيع.

طيلة العشر سنوات الماضية، كان السؤال دائما على النحو التالي: هل ستساهم آليات التواصل الأفقي، بمعنى منتديات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، يوتوب، إلخ)، في دمقرطة الفضاء العمومي وترسيخ قيم العقل التواصلي القائمة على التخاطب بدل الخطاب، والتفاهم بدل الفهم، والتفاعل بدل الفعل، أم أنها خلاف ذلك ستدعم موجة “ما بعد الحقيقة” القائمة على السردية التي يرددها أكبر عدد من الناس، وذلك باستغلال آليات الأسماء المستعارة والحسابات الوهمية، لكي تغدو السردية من كثرة ترديدها كأنها حقيقة مقدسة؟

صار بوسع الكتائب الإلكترونية أن تلبي حاجيات المتخيل الجهادي بطبعة إلكترونية أنيقة: الاختراق، الإنزال، التبليغ، الحملة، الأسماء المستعارة، الدعاية، وهو ما كان يبدو لبعض القراءات كأنه تفريغ لا بأس به طالما لا يمثل تهديدا آنيا للأمن العام

السؤال ليس بسيطا، بـل لعله بلغ مستوى من الخطورة والتعقيد، إنه سؤال مآلات الفعل السياسي برمته، هذا الفعـل الذي يحتاج دائما إلى مطلب الحق، حتى ولو افترضنا أن الحق صار نسبيا في الأخير، أو أنه يجب أن يتخلص من مفهوم الحقيقة حتى لا يكون مدعاة لإنتاج العنف، المهـم ألا يمحي الحـق كقيمـة أخـلاقية ومطلب للعدالة والإنصـاف، لأن ثمـن امحـائه لن يكون سـوى تغـول العدمية والشعبوية، ما يعني في النهـاية الموت الدماغي للسياسة.

يجمع العقل الدعوي على أن الكذب والحيل من الأمور الجائزة شرعا والمبرّرة أخلاقيا متى كان القصد هو خدمة الدين. وتلك عبارة مطاطية وتمتنع عن التقنين. والمعضلة أننا نعيش في مجتمع حيث الجميع يمارس الدعوة والتبليغ. معظم منظوماتنا التعليمية والتربوية والثقافية مجنّدة لغاية واحدة: تحويل جميع الناس إلى دعاة مفترضين. حتى أنك أصبحت ترى أستاذ الرياضيات لا يجد حرجاً في تخصيص جزء من ساعات التدريس للدعوة إلى الله، علما بأنه لا يتوانى في المطالبة برفع راتبه الشهري، وترى سائق التاكسي بدل أن يُخبر السائح الأجنبي عن مواقع السياحة يخبره عن عظمة الإسلام، وفي آخر الرحلة قد يأخذ منه أكثر من مستحقاته، وترى الطبيب النفسي لا يفـوت فرصة المقابلة العيادية لتحريض المريض على الاعتكاف في المسجد، قبل أن يدعوه إلى تأدية فاتورة الجلسة، إلخ. يقول هيجل إن غاية التاريخ هي المجتمع الذي يتحقق فيه مبدأ اعتراف الجميع بالجميع. أما نحن، فعلى الأرجح نتجه، بحول الله، إلى المجتمع الذي يتحقق فيه مبدأ دعوة الجميع إلى الجميع. في هذه الأجواء يصبح إنشاء كتائب إلكترونية دعوية صفقة مربحة سلفا ومسبقا، دون حاجة إلى أي ميزة أو مزية، ودون كبير جهـد يُذكر عدا “التوكل على الله”!

مصطلحات جديدة تنم عن حجم الانفعالات السلبية التي تقف خلف أقنعة الأسماء المستعارة والحسابات الوهمية، من قبيل “الديوثة العلمانية”، و”الإباحية الحداثية”، وهلم هوسا جنسيا لا ينفجر إلاّ خلف أقنعة الكتمان للعوالم الافتراضية، حيث دائرة المسؤولية محدودة، ولا أحد يحاسب أي أحد.

في واقع الحال تعكس فاعلية الكتائب الإلكترونية أزمة في مفهوم الحقيقة داخل العمل السياسي، حيث يكفي أن يردد الكذبة السياسية بضع عشرات حتى تبدو كأنها حقيقة يقينية لا يكتنفها غبار. ولدينا في المغرب تجـربة بليغة: فمـا إن تواطأت الكتائب على تسمية سياسة التقشف بالإصلاح، حتى بدأ الكثيرون يتخيلون أن ثمة بوادر إصلاح لا يعيقه غير أعداء الإصلاح. بل أكثر من ذلك، في معارك كثيرة لم يعد اللجوء إلى الصور المفبركة ساريا كما كان في أول الأمر، لربما صارت عيون اليوم أكثر نباهة، وإنما يتم اعتماد صور حقيقية بعناوين مضللة، فيكون للأمر أثر بليغ على التوجيه الانفعالي للرأي العام. وحتى نختصر التوضيح، ثمة أسلوب سهل جدا، لا يتطلب أي ميزة أخرى عدا انعدام المروءة، وهو الأشد أثرا والأكثر ضررا. ومن ذلك يكفي أن آخذ صورة حقيقية لطفل صغير يبكي ويستصرخ. ولأنـك ستشعر لا محالة بالرحمة والرأفة، فعلى الأرجح قد تصدق أي شيء أكتبه تحت الصورة. بهذا النحو يتم التلاعب بمشاعر الآلاف لغاية التهييج المضلل. أسلوب بالغ السهولة وبالغ القذارة أيضا. وهل يستحي من يستغل مواقع التواصل الاجتماعي للتخفي خلف أسماء مستعارة وحسابات وهمية؟ يقال الحرب خدعة. هذا حين يتعلق الأمر بالحـرب فعلا. غير أننا لسوء الحظ أمام منطق لا يتصور السياسة في كل أحوالها سوى كحرب مستعرة.

موضوع الكتائب الإلكترونية الدعوية والجهادية، على أهميته القصوى، لا يزال يفتقد إلى دراسات أكاديمية متخصصة. لذلك، فغاية هذا المقال كما نرجو أن يمثل نوعـا من التحريض للأكـاديميين والجـامعيين وخبراء مراكز الدراسات قصد توفير بعض الوقت للاشتغال بموضوع نعتبره ظاهرة سياسية واجتماعية وأيديولوجية مستحدثة، وبالغة الأهمية والخطورة.
نقلا عن العرب

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب