بعيداً عن القيل والقال، ومن تقوَل أو قال… لنعرف شيئاً عن هذه المفردة ( العصابة ).
جاءت هذه المفردة بعدة ألفاظ لها نفس المعنى أو بمعنى قريب. فالعصابة لغةً تعني ما يُشد به الرأس، أو ما يوضع على الرأس كالعمامة أو العقال في الزي العربي ليعرف به الفرد في قومه، ويميز عن غيرهم، وقد يعتمرها وجاهة أو لتخدم في أمور مفيدة مثل الشد على الرأس للتخلص من الألم ( الصداع )، وللوقاية من حرارة وأشعة الشمس في الحر ومن البرد في الشتاء، كذلك للشد على الجرح… وجمع عصبة عصائب. واصطلاحاً ومن الناحية الاجتماعية فيقصد بالعصبة الجماعة المحيطة، أي مجموعة من الأفراد يحيطون بمن يتزعمهم، أو كأفراد يشد بعضهم بعضا. وعصبة الرجل هم قرابته، أو جماعته ومن يحيطون به يحفظونه وينصرونه. والجماعة إن كانت منظمة فلديهم أهداف مشتركة لا يحيدون عنها، وتحكمهم ضوابط معينة اتفقوا عليها. ومن حيث العدد فالعصبة عادةً يكون عددهم عشرة فصاعدًا.
ويشتق من العصبة أو العصابة أيضاً مصطلح التعصب. ويقصد بالتعصب التشدد وعدم قبول الفرد أو الجماعة لغير ما يراه الآخر. وتعصب الفرد أي أنه ذو عصبية وتشدد في الرأي.
قد تنشأ عصابة أو أكثر في مجتمع معين وتكون مغايرة لأهدافه العامة وخارجة عن أنظمته وقوانينه، لكنها قد تساير وتتماشى مع المجتمع حتى حين التمكن والفرصة السانحة لتغلب في رأيها وتحكم سيطرتها. وبهذه الحالة لا يمكن القول أن انتماء مثل هذه الجماعة يكون لمجتمعها، ولا أن ولاءها لقادة مجتمعها وبلدها، بل قد تتخذ من الحاكم ونظامه وأتباعه متسلقاً للوصول للمآرب الأخيرة التي تم التخطيط لها من قبلها كجماعة مستقلة بأهدافها بأسهل الطرق وبأقل الخسائر. وقد يكون للعصابة معنى إيجابياً عندما تعمل بالخير وللخير، أو على العكس من ذلك.
وفي القرن الماضي ظهرت العديد من العُصَب أو العصابات العالمية بهذا المعنى أو ذاك، فقد نشأت على سبيل المثال ما يسمى بـ ( عصبة الأمم المتحدة) هي إحدى المنظمات الدولية تأسست عقب مؤتمر باريس للسلام في القرن الماضي عام 1919، الذي أنهى الحرب العالمية الأولى التي دمّرت أنحاء كثيرة من العالم وأوروبا خصوصاً، وهي أول منظمة أمن دولية هدفت إلى الحفاظ على السلام العالمي ولكنها فشلت في تحقيق هذه الأهداف لأسباب عديدة… لكن نشأة هذه المنظمة أو العصبة عُد من المحاولات العالمية لإعادة التوازن العالمي لما بعد تلك الحرب.
أما المافيا فهو نموذج آخر للعصبة التي لطالما عانت البشرية من جرائمها وما زالت لكونها تمثل جانب الشر العالمي المحاط بالأسرار والغموض فيما يتعلق بمن ينتسب إليها ومدى تدخلها في العديد الجرائم العالمية. المافيا مصطلح يستخدم لوصف نوع من ” نقابة عصابات الجريمة المنظمة ” التي تمارس الحماية الجريمة المنظمة واستخدام الابتزاز والقتل وأبشع أنواع العنف والترهيب. كانت لهذه العصابات بدايات وأصول عالمية عميقة، وقد أخذت بالتوسع والانتشار عالمياً وبشكل منظم، هذا ناهيك عن ( الماسونية ) العالمية، وهي التنظيم الأخطر والأكثر تأثيراً في العالم ذو الجذور التاريخية العميقة والأهداف البعدية.
وبالنسبة للمسلمين، فإن القرآن الكريم يعد المصدر الأول للفصاحة والبلاغة والحكمة في تناوله للمصطلحات. فما جاء في القرآن الكريم يبين لنا أكثر وبصورة أوضح المعنى لما نختلف فيه.
قال تعالى:
( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) ﴿٧٧ هود﴾ جاءت مفردة ( عصيب ) لتشير إلى شدة المحنة أو الظرف.
وقوله تعالى :
( إذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿٨ يوسف﴾
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ) ﴿١٤ يوسف﴾
نلاحظ وردت مفردة ( عصبة ) الأولى لتدل على الجماعة الكُثر وهم أبناء النبي يعقوب عليه السلام وهم يستنكرون حبه وتفضيله لأخيهم غير الشقيق النبي يوسف عليه السلام بينما هم أكبر منه وأكثر عدداً. أما في الثانية فأشارت إلى القوة والشدة والإحاطة، فهم يستنكرون خوف أبيهم على يوسف عليهما السلام من الذئب وهم أشداء يحيطونه بالحماية. في الحقيقة لم تكن إحاطتهم لحمايته، وتبين أنهم كانوا غادرين.
وقوله تعالى:
( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) ﴿٧٦ القصص﴾
هنا جاءت مفردة العصبة بمعنى الجماعة الأشداء الأقوياء.
وقوله تعالى في حادثة الإفك :
( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ﴿١١ النور﴾
المعنى هنا أيضا جماعة تزعمهم شخص قد تولى كبره في معصيته وعناده لله ورسوله. لكن هذه الجماعة لم تكن نواياهم حسنة مطلقاً بل كانوا آثمين. ولكن الله تعالى أبدل عاقبة عملهم السيء بأن يكون خيراً للنبي وأهل بيته عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام. إذن من صحب النبي عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام كان فيهم من حسنت نواياهم وأفعالهم، ومنهم من ساءت نواياهم وأفعالهم. ومن ذلك نفهم أيضاً أن ليس كل صاحب صديق بالضرورة. وقد نزلت العديد من السور والآيات تصف لنا أحوال من آمنوا بالله ورسوله الخاتم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام وحسن إسلامهم وصحبتهم، كثير منهم من جاهد وقاتل واستشهد بين يديه ثابت الإيمان راسخ العقيدة، متبعاً لكل ما أمره به الله تعالى ورسوله الأكرم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام في حياته وبعد رحيله، وفي المقابل كان هناك من هم على العكس من ذلك ممن أخبرنا الله تعالى عنهم في كنابه الكريم في سور وآيات عديدة مثل سورة ( المنافقون ) و( التوبة )… فما كانت صحبة بعضهم إلا مسايرة حتى حين، وللتجسس والاطلاع على ما يفيدهم لاحقاً، وما كانت إحاطتهم به إلا نفاقاً وليس لنصرته أو حمايته عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام.
ويتحاشى المسلمون عموماً الخوض في الأحداث والمواقف التي نزلت فيها هذه السور والآيات الكريمة، والشخوص الذين تعنيهم تقيةَ، أي اتقاء الأذى المحتمل من الآخر المخالف، أو اتقاء الفتن وشرها الذي يعم … لكنها تبقى حقائق ثابتة في المصادر الموثوقة فضلاً عن القرآن الكريم وإن غيبت، وما علينا سوى أن نقرأ ونتمعن في المعاني والأحداث وما وراء الأحداث لنعي ونفهم، وبالتالي لنحدد بالضبط ما نتبع ومن نتبع.
د. ماجدة هليل العلي
12/ 9/ 2022