استلمت دعوة كريمة لحضور جلسة عشاء وعمل في السفارة العراقية بموسكو مع الطلبة العراقيين هناك, وقد تقبلت هذه الدعوة بكل سرور وامتنان , وقضيت وقتا جميلا و ممتعا جدا مع السيد السفير( لولب الجلسة ومحرٌكها ) والمستشار الثقافي وموظفي السفارة الاخرين ومجموعة كبيرة جدا من الشباب العراقي اليافع والناهض, وشاهدت حيويتهم الرائعة وجماليتهم وهم يرتدون ملابسهم الشبابية الملونة , واستمعت الى همومهم التي يعانون منها ومشاكلهم وهم يتحدثون عنها بحرارة وبلغة مباشرة وجميلة وبلا لف او دوران كما يقال, وتعرفت على مشاريعهم المستقبلية المشرقة واحلامهم , وتعانقت مع مجموعة من الذين كانوا يوما- ما ( في القرن الماضي ) شبابا بعمر الزهور و يجلسون امامي واقوم انا بتدريسهم مبادئ اللغة الروسية وآدابها في صفوف كلية اللغات الحبيبة بجامعة بغداد , وكان الجميع – وبفرح ونشوة – يلتقط الصور للجميع في منظر جميل ومدهش جدا وكأننا كنا في مهرجان او كرنفال للشباب .
كانوا شجعانا , هؤلاء الطلبة الشباب , الذين تناولوا العشاء اللذيذ المفروش على موائد السفارة العراقية في موسكو ببذخ وكرم عراقي أصيل ,ثم بدأوا يتحدثون بهدوء وثقة مع المستشار الثقافي ومساعده حول مشاكلهم . تذكرت انا كيف درسنا في موسكو قبل خمسين سنة , وكيف كنٌا نتجنب ( ولا اريد ان استخدم فعل – نخاف من ) زيارة السفارة العراقية والملحقية الثقافية لاننا كنٌا نعرف مسبقا , انهم لا يستمعون الينا والى همومنا ومشاكلنا ولا يرغبون بذلك اصلا , وانما كانوا يصبون على رؤوسنا اتهامات باطلة ( ما انزل الله بها من سلطان ) كما يقول التعبير العربي الكلاسيكي الطريف . كان النقاش بين المستشار الثقافي ومساعده وبين الطلبة حيويا جدا , وعلى الرغم من المشاكل الشخصية التي ترتبط بفلان وفستان هنا وهناك من تمديد لفترة الدراسة او الانتقال من والى او استلام المخصصات المذكورة
في الفقرة هذه او تلك وما شاكل ذلك وهو أمر طبيعي وضروري ايضا بالتاكيد , فقد برزت قضية كبيرة ومهمة جدا في اطار هذا النقاش , وتكمن هذه القضية بالقائمة الجديدة التي اصدرتها الملحقية الثقافية حول ال ( 39 ) جامعة روسية بين اكثر من ( 800 ) جامعة في روسيا الاتحادية , والتي اختارتها لدراسة الطلبة فيها ليس الا, او كما ذكر البعض , فان تلك القائمة ربما ستؤدي الى عدم اعتراف الملحقية الثقافية ( وبالتالي وزارة التعليم العالي في العراق طبعا ) بالجامعات الروسية الاخرى خارج نطاق هذه ال ( 39 ) جامعة المذكورة في تلك القائمة وبخريجيها والذين يدرسون الان فيها , وتمحور النقاش حول الاسس العلمية الدقيقة التي تم الاعتماد والاستناد عليها لاتخاذ هذا القرار الغريب والعجيب بل والخطير ايضا في آن واحد , بل ان البعض قد طرح الموضوع همسا بالشكل الآتي – هل يمتلك الجانب العراقي الحق القانوني والدبلوماسي بتصنيف الجامعات الروسية الحكومية الى صنفين – تلك التي يعترف بها وتلك التي لا يعترف بها دون نشر الضوابط العلمية لهذا القرار و حتى دون التشاور مع الجانب الروسي بهذا الامر ؟ وبالتالي , واستنادا الى ذلك وانطلاقا من المبدأ الدبلوماسي المعروف وهو – المعاملة بالمثل – هل يمتلك الجانب الروسي حق الاعتراف ببعض الجامعات الرسمية العراقية وعدم الاعتراف بجامعات رسمية عراقية اخرى ويصدر قائمة علنية وصريحة بذلك كما فعلت الملحقية الثقافية العراقية في موسكو ويعلن فيها انه يعترف بجامعة بغداد مثلا ولا يعترف بجامعة البصرة ؟ وماذا سيكون رد فعل الجانب العراقي على مثل هذا الاعلان في حالة صدوره؟ وكيف تتقبل الحكومة العراقية هذا الموقف , بل يمكن القول حتى بهذا التدخل في الشؤون الداخلية للعراق دون التشاور معه ؟, وقد حاول المستشار الثقافي – والحق يقال – وبادب جم ودبلوماسية عالية جدا واسلوب تربوي راق ورفيع المستوى بكل معنى الكلمة ان يقنع الطلبة ويوضح لهم بان هذا ليس قرار الملحقية وانما قرار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في بغداد وان هناك لجان علمية دقيقة ومتخصصة تتابع التعليم في الخارج وتتخذ توصيات بشأنه , وان هذا
لا يعني عدم امكانية الاعتراض على هذه التوصية او التمييز رسميا بشأنها او الاعتراض عليها , وكان يؤكد في ثنايا حديثه دائما على ضرورة المحافظة على المستوى العلمي للخريجيين وان ذلك يعد مسألة مهمة جدا بل وحتى مسألة ذات أبعاد وطنية , ولكن كل ذلك الكلام العميق والجميل فعلا لم يجعل الطلبة مقتنعين بذلك القرار , وقد اقترحوا على المستشار الثقافي ان يزورجامعاتهم ليتأكد بنفسه من مستواها العلمي, وقد وعد المستشار الثقافي بتلبية دعوتهم هذه , وشمل هذا النقاش الحاد طبعا – ولكن همسا وبشكل غير مباشر – الفساد الاداري الموجود فعلا وحقيقة هنا وهناك في الجامعات الروسية وانعكاساته على مستوى التعليم , و هذا هو السبب الاساسي والمباشر و الذي أدٌى الى كل هذه الاشكالات طبعا , بل ان معاون المستشار الثقافي تكلم علنا عن جامعة روسية لم يذكر اسمها قائلا انها وافقت على قبول اكثر من 100 طالب عراقي للدراسات العليا فيها لهذا العام على النفقة الخاصة , وطرح سؤالا منطقيا جدا وعلميا وهو – اذا كانت هذه الجامعة تقبل هذا العدد من العراقيين فقط , فكم ستقبل من البلدان الاخرى ؟ وكيف ستضمن لهذا العدد الكبير من الطلبة المستوى الجيد بشأن خدماتهم العلمية والادارية من اساتذة مشرفين وسكن وغيرها من هذه الامور ؟ واستنتج من ذلك ان الهدف هنا واضح تماما وهو الركض وراء الاستفادة المادية لتلك الجامعة بغض النظر عن المستوى العلمي لهؤلاء الطلبة , وعلى الرغم من منطقية هذا الطرح وعلميته وموضوعيته وانطلاقه الايجابي بشكل عام , الا انه يحتاج الى اثبات عملي ايضا بشكل خاص , ويتطلب متابعة دقيقة وحاسمة لمستويات تلك الجامعات علميا واداريا من قبل لجان علمية عراقية متخصصة تزورها وتتناقش مع كوادرها وتدريسييها والاطلاع على مناهجها للوصول الى استنتاجات دقيقة وحاسمة تجاهها, وان ذلك كله يجب ان يخضع الى سياقات عمل علمي صارم وجهود تبذلها لجان عراقية متخصصة اذا اردنا فعلا ان نتعايش علميا مع جامعات العالم والاستفادة من خبرتها ومسيرة البحث العلمي فيها, والتأكٌد من عدد الحاصلين على الاستاذية في اقسامها واصداراتها العلمية
وعدد بحوثها ومكتباتها وعلاقاتها مع الجامعات الاخرى ومؤتمراتها العلمية وبقية الضوابط العالمية المعروفة, وعندها نخرج باستنتاج علمي دقيق وحاسم تجاه هذه الجامعة او تلك ونعلن التعامل معها او سقوطها وحذفها من شرف تعاملنا معها .
علينا ان نحترم العالم وانظمته كي نجبره على احترامنا واحترام انظمتنا , وعلينا ان نتكلم مع العالم بنفس اللغة والعقلية العلمية والموضوعية التي نريد بها ان يتكلم هو معنا , ولهذا كله لا يصح اتخاذ قرارات او توصيات بهذا الشكل غير العلمي وغير الشفاف الذي تم به اعلان ال ( 39 ) جامعة التي أشرنا اليه أعلاه ونتمنى ان يعاد النظر بهذا القرار .