23 ديسمبر، 2024 10:39 ص

عن الشهرة والتشهير – 3 / الشيوعي هو (من يتزوج شقيقته) !

عن الشهرة والتشهير – 3 / الشيوعي هو (من يتزوج شقيقته) !

مثلما هناك ولع وتطلع وحب للشهرة، هناك نزوع للتشهير، وذلك يقع في خانتين، خانة سلبية تتمثل بالرغبة المبيتة للتشهير بخصم ما، أو تشهير من أجل الإنتقاص من شهرة أحدهم، أو تبنياً لموقف جهوي أو سياسي يدعو للتشهير بجهة منافسة (وما أكثر عجاجها اليوم).
وخانة إيجابية يقع تحت عنوانها، التشهير بخصم كرد فعل إضطراري دفاعا عن النفس، أو الحاجة لكشف حقائق خدمة للصالح العام، أو الحاجة لفضح تزييف وزيف بعض من إشتهروا زوراً على حساب الآخرين، (وقد أوردنا بعض الأمثلة عن ذلك في الحلقتين السابقتين).  
سنتحدث هنا عن مفصل مهم من مفاصل ظاهرة التشهير في تاريخنا الإجتماعي والسياسي المعاصر، ومدى تأثيرها على مجتمعاتنا، وكيف اصبحت جزءا من أرثنا السلوكي العام، بل أصبح التحريض والتشهير أحد أهم وسائلنا المستخدمة في صراعاتنا اليومية على المستوى الشخصي والإجتماعي والسياسي.
هناك تشهير شخصي يتكفل به أحدهم لإسقاط آخر، والحكاية التالية حدثت نهاية الخمسينات من القرن الماضي، بطلها زير نساء هو المرحوم (محمد جابر الدوري) مدير مدرستنا الإبتدائية (1) وكان لمدير المدرسة أيامئذ سطوة ومكانة في المحلة لا يجاريه فيها أحد، عشق المدير إحدى نساء المحلة وتدعى (وحيدة الشكرة), كانت إمرأة مطلقة في غاية الجمال يتيمة الأب تسكن مع أمها وأثنين من أشقائها الصغار، حاول بشتى الطرق إستمالتها دون جدوى، مر في إحدى المرات من أمام دارتها ومعه حارسه الشخصي (أبو هادي) يطلق العيارات النارية من مسدسه في الهواء، هي تشتمه من سطح الدار والأم تسمعه بكاءها من الشباك، ويبدو أنه لم ينل مأربه منها، فطلب المدير منا ذات يوم ونحن تلامذة صغار أن نحمل الحجارة ونتجه الى بيت فلانة العاهرة لنرجمه لكي يتركوا الحي دفاعا عن العفة والشرف وسمعة المنطقة. إنهمرت الحجارة من كل جانب ولم يتمكن أحد من الجيران إيقافنا، كان التلامذة الكبار بيننا يطلقون الشتائم التي لقنها لهم مديرنا، حتى هرب أهل الدار من سطوح الجيران، فحضرت الشرطة وتفرقنا هاربين، ماذا تفعل الشرطة لنا ونحن صغار!. تلطخت سمعتهم وإنتهى كل شيء، في صباح اليوم التالي نقلوا أثاثهم تحت حراسة الشرطي كاكا صالح. ولم أعِ مأساة ما قمنا به وماحصل – رغم الضرب المبرح الذي تلقيته من أبي – إلا بعد سنوات عندما فكوا لنا كبار الحي طلاسم القصة، ومثل هذه المشاهد تكررت كثيرا في روايات وأفلام سينمائية عالمية وعربية ولم يكن وراءها هدف نبيل في الغالب، هذا التشهير يقع في خانة التشهير الشخصي لأن وراءه شخص قرر الانتقام من آخر.
هناك التشهير الشعبي الذي تقف وراءه عصبة اجتماعية متشددة خدمة لتوجهاتها المتعصبة طعنا بمنافسيها. وقد أفردنا له مثالا ساطعا في الحلقة الأولى عندما تحدثنا عن الإمراة المسكينة (ح . م).
هناك تشهير سياسي وأمثلة ذلك كثيرة وقصصها عديدة على مدى الصراع السياسي الذي إبتلى به العراق المعاصر، هذا التشهير تتبناه قواعد جهة سياسية ضد قواعد جهة سياسية أخرى، ولابد هنا من سرد حكايتين تدعم ما نتحدث عنه.
في الصراع السياسي المحتدم بين الأحزاب الكبرى يمينها ويسارها فور إعلان الجمهورية الأولى – التي نحملها تاريخيا جريرة كل ما جنيناه لاحقا – تعددت الوسائل المستخدمة في ذلك الصراع، لكن أبرز تلك الوسائل على الإطلاق وسيلة التسقيط الأخلاقي، ولما كانت مجتمعاتنا ومازالت تحصر الشرف في خانة واحدة هي خانة (العِرْض)، فالطعن بالعِرض أولى السهام القاتلة والنافذة في صدر عدوك، ورغم إن هذا السلاح يعد من (أسلحة التدمير الشامل!) إلا أن إستخدامه لا يحتاج أكثر من عضلة صغيرة تدعى (اللسان).
عندما كانت الغلبة في الإنتشار لليسار الشيوعي منذ اربعينات القرن الماضي، لم يجد اليمين القومي من وسيلة منطقية أو حجج علمية تقف بوجه هذا المد الفكري، ما جعلها تلجأ الى إسلوب التشهير (الإخلاقي)، وقبل أن أشير الى القصة التي حدثت معي سأورد هنا حكاية قصها عليّ الصديق (كاظم علي حطاب) وهو من قدماء البعثيين ممن عملوا مع فؤاد الركابي وعلي صالح السعدي في بداية الستينات، وهذه تفاصيل الحكاية:
(كنت صبيا يافعا يوم كسبني أحد أصدقائي لأدخل معه ضمن التنظيم الطلابي (إتحاد الطلبة)، فوصل الخبر بعد أيام الى عائلتي، وفوجئت ذات يوم بأعمامي مجتمعين بدارنا ليجروا معي تحقيقا حول صحة ذلك، وبينوا لي أنني ألحقت العار بسمعة العائلة، وشرحوا لي في النهاية حقيقة الشيوعية من أنها إنحلال وتفسخ خلقي. وإذا كان لابد من العمل في السياسة فعليّ الأنتماء الى حزب البعث، ويكمل الرفيق حطاب ، أخذني أخي الأكبر الى المقهي وقال لأحد الجالسين (كاظم وياكم)، وبقيت أسمع فقط عبارة (كاظم من ربعنا) ووجدت العمل سهلا، لا يحتاج الى إجتماعات أو تنظير أو تثقيف أو قراءة كتب وأدبيات إطلاقا!!، وكل واجباتنا كانت تتلخص بنصب كمائن ليلية لأحد المنتمين للحزب الشيوعي أو ممن يؤيدوا هذا الحزب لكي (نلتم) عليه ضربا بالهراوات)، ولابد من الإشارة الى أن السيد كاظم على حطاب كان يقص عليّ تلك الحكايا من باب النقد الذاتي الجارح والمؤنب للظمير، وهي ترجع الى بدايات إنتمائه عندما كان شابا يافعا نهاية الخمسينات، لأنه إنشق عن الحزب بعد ذلك وشكل مع علي صالح السعدي وآخرون في مؤتمرهم التأسيسي السري المنعقد بمدينة الزرقاء عام 1965 حزب العمال الثوري.
أما شقيقي الأكبر وكان من القومجية المتعصبين فقد تشفى بمناسبة إلقاء القبض على شقيقي الآخر الذي يصغره سناً بسبب إنتمائه للحزب الشيوعي !. وكان ينبهني الى ذلك دائما خوفاً من أن (أنحرف) وأنضم الى هذا التنظيم، والغريب أنه أختصر لي كل الفلسفة الماركسية والأيدلوجية الشيوعية بجملة واحدة هي (الشيوعية معناها أن يتزوج المرء شقيقته) و(الشيوعي يقول لماذا يتزوج الغريب شقيقتي فأنا اولى بها)، ولم أستطع أن أخفي سؤالا (وإذا لم يكن لديه أخت؟) فرد عليّ بالقول ( في هذه الحالة، إما أن يمارس الجنس مع أمه أو يتزوج ويخلف بنتا ليمارس الجنس معها!) فسألته مجددا ( وإذا كانت أمه متوفاة وتزوج ولم يخلف بنتاً؟) فإستشاط غضبا وقال بعصبية ( أنت شنو قصتك أبن الكلب، خاف صاير شيوعي مثل أخوك العار وإحنا ما ندري)!!.   
لم أنتم للحزب الشيوعي، ولا لأي حزب آخر، لكني وجدت في ستينيات القرن الماضي وأنا أصل الى الوعي المطلوب لما يدور حولي أن كل أشراف ومثقفي مدينتي ومعلميني ومدرسيني ممن كانوا على خلق رفيع هم شيوعيون، وأغلب الشقاوات (ولي شقيق ثالث واحد منهم) والعصابجية والسرسرية والسيبندية وعديمي الثقافة هم قومجية وبعثيين، وهذا لا يمنع من أني تعرفت على إثنين أو ثلاثة من البعثيين في العام 1967 ممن كانوا ذو حظوة أخلاقية وكياسة وأدب، وللتاريخ لم يتمكن حزب البعث من بناء التنظيم الذي يليق بكيان حزبي إلا بعد إنقلابهم في العام 1968 ، يومها وجد أمامه (خبز حار ومكسب ورخيص) وجد شبابا أنتجته الظروف السياسية والإنسانية خلال حكم عبد الرحمن عارف، ممن قرأوا وتثقفوا وإستفادوا من هامش الحرية الذي وفره ذلك العهد. (سنفرد لتلك الظروف حلقة خاصة لاحقة لمن لم يعشها).
أما التشهير التالي فهو التشهير الذي يتكفله حزب السلطة، ويصح تسميته التشهير الرسمي، وأمثلة ذلك كثيرة لا تعد ولا تحصى، والقصة التالية أحدها:
كان البعثيون في عقدهم الأول خلية (نحل) لا تهدأ من العمل (النضالي)، الإنذارات بالجملة والواجبات متلاحقة، في ليلة من ليالي العام 1977 دعوتْ أحد معارفي (وكان رفيقا بعثياً) ليشاركنا مناسبة خاصة، بعد أن رحبتُ به وجلس الى جانبي سألته : (شنو الأخبار؟ اليوم هم كان عندك واجب) فرد عليّ (إي والله). والحكاية التالية هي ملخص الواجب كما رواه لي الرفيق ( عادل . ل) وهو ما دفعني لمتابعة تفاصيل هذا الواجب في الأيام التالية.
(كانت تسكن في حييّنا ببغداد عائلة عراقية ميسورة تنتمي الى طائفة الصابئة المندائيين، عُرف عن كل أفرادها الخلق الكريم والحياء والتهذيب الحسن، إبنهم البكر تخرج لتوه طبيبا، ويبدو أن الرفاق قد تأكدوا من أن أبنتهم المهندسة (ر) تنتمي الى الحزب الشيوعي، فكان الواجب أن يقف أحدهم على ناصية الشارع المؤدي الى دارهم، حتى إذا ما توقف باص شركتها وترجّلت المهندسة منه، يشير (المكلف بالواجب) إليها محدثا من كان يقف بالصدفة من أبناء المحلة (نزلت الكحبة)، وإذا ما تفاجأ بعضهم معترضا يجيبهم ( يا معودين البارحة كان الربع ماخذيها تبياتة)!!, وهناك (مكلف) آخر يتحدث كيف شاهدها في مكان فاحش، ومكلف ثالث ورابع وهكذا… وخلال أيام قليلة وجدنا أن عددا كبيرا من سكنة الحي يتحدث عن فلانة (العاهرة)، والصبية قبل الشباب ينتظرون نزولها من الباص يوميا يسمعوها من النعوت الأباحية والشتائم المتوالية حتى باب دارتها!!.
لم تمض أسابيع حتى هربت هذه العائلة الى حي الخندق بمدينة البصرة، في العام 1989 زرت البصرة وسألت أحد الأطباء الأصدقاء عن عائلة الطبيب (حامد . ع) فعرفها، وأخبرني أن (حامد) ترك العراق وهو اليوم من كبار الجراحين في بريطانيا أما شقيقته (ر) فقد أصيبت بأكثر من عاهة نفسية ، وهي الآن قعيدة الدار شبه مجنونة !!.
ــــــــــــــ
ملاحظة هامة جدا:
الى كل من لم يند جبينه بعد لما فعلته عصابات صدام ، لأنه (ربما) لم ير ولم يسمع شيئا عن تلك الأفعال التشهيرية أدعوه الى سماع إفادة (حامد الجبوري) المنتمي لحزب البعث والذي شغل مناصب وزير خارجية, ووزير إعلام , وأمانة مكتب الرئيس، في إفادته لبرنامج (شاهد على العصر) الذي تقدمته قناة الجزيرة، في الحلقة الثامنة وفي الدقيقة الأربعين وما يليها (عدد حلقات الشهادة إحدى عشر حلقة)، ما عليك سوى أن تكتب ( حامد الجبوري – شاهد على العصر – ح8 ).
(1) أتمنى على صديقي وحبيبي قاسم محمد جابر الدوري ان يتقبل ما أوردته هنا من حكاية تخص المرحوم والده، فليس فيها من الأساءة قدر ما أردته من الفائدة لأغناء موضوعنا، وأذكّره كم كنتُ أمازحه وأنا أعدد له قصص والده مع النساء!!.
[email protected]