يبحر الباحث المغربي المعروف عبد الإله بلقزيز في كتابه “الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر” (مركز دراسات الوحدة العربية 2002) في خضم التيارات الفكرية الإسلامية الحديثة والمعاصرة، منذ القرن التاسع عشر (الجيل الإصلاحي الأول) إلى نهايات القرن العشرين (الأجيال الإحيائية الأخيرة)، وهي تبحث في مفهوم الدولة المنشودة، وخصائصها الرئيسة.
يقسّم بلقزيز المفكرين الإسلاميين إلى أجيال بحسب اللحظة التاريخية الزمنية التي أتوا بها، التي أثّرت بلا شك في منظورهم للدولة ولطبيعتها وسماتها، بالرغم من اختلافهم في الاستجابة إلى تلك التحديات، بين جيل إصلاحي سعى إلى إنقاذ الخلافة العثمانية آخر أيامها عبر الإصلاحات الدستورية الداخلية المعمقة، وتحجيم الاستبداد، مثل خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني، والمشروطية الدستورية لدى الشيعة، ثم التحول الذي حدث مع عشرينيات القرن الماضي نحو محاولة إحياء فكرة الخلافة، ومرافعة رشيد رضا عن ذلك ردّاً على موقف أتاتورك في تركيا، وصولاً إلى التحول من الدولة الإسلامية إلى الدولة الدينية على يد التيارات الإسلامية الإحيائية، وبروز الجيل الإصلاحي المتأخر، ومحاولات نقد فكرة الخلافة، ثم بروز فكرة ولاية الفقيه، والجدل حول الديمقراطية والشورى في أوساط الإسلاميين.
بالطبع نصل من خلال كتاب بلقزيز، وكتابه الآخر “الإسلام والسياسة: دور الحركات الإسلامية في صوغ المجال السياسي” إلى أنّنا عندما نتحدث عن مفهوم “الدولة الإسلامية” في خطاب الإسلاميين، فلا نتحدث عن كتلة واحدة صمّاء، أو عن نموذج متشاكل بالضرورة، فهنالك الدولة القطبية “دولة الشريعة”، التي تختلف عن دولة محمد عبده مثلاً، وعن دولة الظواهري وطالبان وبن لادن، أو عن دولة ولاية الفقيه، وهكذا دواليك، ثمة ألوان متعددة من المفاهيم الإسلامية في الحكم والدولة تتوافق في أجزاء وتختلف في أخرى.
أهمية كتابي بلقزيز أنّهما يلفتان الانتباه إلى ضرورة بناء الرؤية النقدية العميقة لمفهوم الدولة الإسلامية، وتفكيكه وإثارة التساؤلات عنه، على صعيد بحثي ومعرفي أولاً، وعلى صعيد فكري وسياسي عربياً ثانياً، بما يعيد تشكيل وعي الأجيال الجديدة بصورة دقيقة عن الإسلام والسياسة والحكم.
مرّة أخرى ما أهميّة تلك المقاربات العلمية والفكرية؟ لو أخذنا على سبيل المثال داعش، مؤخراً، فقد استطاع إغواء آلاف الشباب والفتيات من العرب والمسلمين بفكرة “الخلافة”، ودعوى إقامة الدولة الإسلامية الموعودة، بما داعب خيالهم التاريخي، ودغدغ موروثهم النفسي والفقهي، لكن لو كان هنالك تصوّر لدى الشباب عن الإشكاليات والقضايا الجدلية العميقة حول مفهوم الدولة، وقصة الدولة الإسلامية في التاريخ، والخلافات المعمقة حول التشريعات والقوانين وغيرها، فإنّ هذا الجيل سيكون أكثر وعياً ثقافياً وفقهياً وفكرياً تجاه مثل هذه الدعوات.
ما حدث خلال العقود الماضية، وفي ظل الصراع المحتدم بين الإسلاميين والأنظمة العربية، أنّ أدلجة حدثت لمفهوم الدولة في الإسلام، فأصبح الحديث عن “المصطلح” أكثر من المضمون الواقعي، وعلى الأغلب سنجد أنّ هنالك اجتراراً لكتب التراث الفقهي الإسلامي، ومحاولة ترقيع شكل نظام الحكم فيها، بخاصة لدى الحركات الإسلامية، وفي كليات الشريعة، فعندما يدرس نظام الحكم في الإسلام، فإنّك تعود مباشرة، بصورة أتوماتيكية، إلى ما كتبه الماوردي وأبو يعلى الفرا، منذ قرون طويلة عن شكل نظام الحكم والخلافة والوزارات والأمراء، وأرض الإسلام والكفر، وغيرها من مفاهيم، هي للمفارقة مرتبطة بمرحلة تاريخية وليست بنصوص دينية قطعية، لكنّها تدرّس في كلياتنا ولطلبتنا بوصفها شكل الحكم ونظامه في الإسلام!
نقلا عن الغد الاردنية