23 ديسمبر، 2024 5:39 ص

عن التطرف الطقوسي الشيعي في العراق بعد العام 2003

عن التطرف الطقوسي الشيعي في العراق بعد العام 2003

هناك صفحتان، كل منهما توثق لموقف السلطات العراقية من طقوس عاشوراء قبل وإبان نظام العوجة، لنعرف من خلالهما من كان وراء ما وصلنا إليه من تطرف ومهازل طقوسية غريبة، يدينها أخيار رجال الدين الشيعة قبل غيرهم.

الصفحة الأولى:

ظلت مفردات الطقوس الحسينية الخاصة بمناسبة إحياء ذكرى مأساة واقعة الطف لسنين طويلة، (وعلى الأقل منذ أن وعيت عليها نهاية الخمسينيات)، تقاليدا وطقوسا حزائنية، مشابهة في بعض تفاصيلها بتلك التي كان يحييها المسيحيون المشارقة فيما مضى بذكرى إستشهاد السيد المسيح، فيما كانت الخطابات والقصائد وما يعرف بـ (الردات) معظمها تذكيرية بهذه المأساة التراجيدية، وإن كانت لا تخلو أحيانا من محاكاة ونقد للواقع السياسي، وخصوصا موضوعة فلسطين المحتلة الشاغل الأكبر للوجدان العربي في تلكم الأيام.

كنت اشاهد وأراقب في أحد الأحياء الشعبية عام بعد عام، إحياء تلك المناسبة، وأيضا ما يطرأ عليها من تغييرات.

كانت في ذلك الحي خمسة مواكب حسينية، ثلاثة منها يستخدم فيها المشاركون (الزناجيل) بضرب ظهورهم، وموكب رابع يضرب فيه المشاركون صدورهم بأياديهم (ما يعرف باللطم)، والخامس والأخير يقتصر ظهوره في ليلة العاشر من محرم، ويقوم المشاركون فيه بضرب رؤوسهم بالسيوف (ما يعرف بالتطبير).

ومع الصحوة الثقافية التي طغت على المشهد الاجتماعي العراقي والتي ظهرت ملامحها الجلية إبتداء من العام 1965، بدأت أراقب إنحسار عدد المشاركين بهذه الطقوس، وأكثر المنسحبين منها كانوا من فئة الشباب، ومع حلول العام 1967 إندمجت المواكب الثلاثة الأولى وأصبحت موكبا واحدا فقط لقلة المشاركين، وأقتصر عددهم فيها على قلة قليلة من كبار السن والبقية كلهم صبيان وأطفال!.

كان يمكن يومها، لأي مراقب وباحث إجتماعي أن يستنتج أن هذه الطقوس في طريقها للغياب في المستقبل المنظور، وسيقتصر عاشوراء على المجالس التأبينية والخطابية فقط، وبطرق أكثر تحضرا.

وقبل أن نغادر هذه الصفحة التي سبقت نظام العوجة، نسجل هنا أحد الوقائع المهمة التي تكشف جليا طريقة تعامل السلطة وموقفها من طقوس عاشوراء ومن أتباع المذهب الشيعي بشكلعام، ونقارنها بالطريقة التي تعامل معها نظام العوجة.

في أحد أيام العام 1964، بدأ أهالي بغداد – والشيعة منهم بوجه خاص – يتناقلون خبر وصول (الشباك الذهبي) من إيران، والذي تبرعت به حكومة الشاه لضريح العباس (ع)، ويستعدون لإستقباله.

وعصر أحد الايام شاهدت الرجال يتجمعون ويشكلون مجاميعراجلة قاصدة مدينة الكاظمية، لان الأخبار التي وصلت تقول ان الموكب والشاحنة التي تحمل الشباك سيتوقف هناك، وسيطوفون به في صحن الامام موسى الكاظم (ع) قبل نقله بالشاحنة مرة اخرى الى كربلاء.

عندما أصبح التجمع الشيعي في الكاظمية ضخما جدا وغير مسبوق، بدأت الجماهير بإطلاق هتاف شهير لم يسمع به من قبل:
(ماكو ولي إلا علي .. إنريد حاكم جعفري).

فإتصل مدير الأمن العام أنور ثامر برئيس الجمهورية عبد السلام محمد عارف ليعلمه بذلك ويطلب توجيهاته الأمنية، فسأله الرئيس حرفيا:
ضربو طلقات؟ إعتدو على أحد؟

رد عليه مدير الأمن: لا سيدي.

فقال الرئيس: عوفهم ..

وبعد أن تمت إجراءات زيارة الضريح للصحن الكاظمي، أعادوا الشباك الذهبي الى ظهر الشاحنة، وإنطلق به الموكب ثانية نحو كربلاء.

لكن الجماهير لم تتفرق، بل إزداد حماسها وإكتظاظها، لتستدير وتشكل مسيرة ضخمة مرددة ذات الهتاف، ومتجهةلتعبر جسر الأئمة نحو الرصافة وصولا الى هدفهم الرئيس شارع الرشيد (الذي كان لسنين طويلة المكان الرمزي للتظاهرات الإحتجاجية والمسيرات الرسمية، التي تبدأ عادة من ساحة الميدان وتنتهي عند ساحة التحرير)، فإكتظ بهم الشارع على طوله والهتاف الحماسي الوحيد نفسه:
(ماكو ولي إلا علي .. إنريد حاكم جعفري).

فعاد مدير الأمن ليتصل برئيس الجمهورية ليعلمه بالموقفمجددا، فسأله الرئيس ثانية:
ضربو طلقات؟ فلشو شي؟
أجابه المدير: لا سيدي.
فكرر الرئيس الإجابة ذاتها:
عوفهم !!!!.

وظلت التظاهرة على منوالها طوال ساعات المساء، حتى أن المشاركين وبسبب حماسهم وصياحهم وحماوة أجسادهم، إضطروا لخلع ملابسهم العلوية بسبب التعرق.

في النهاية، ومع إقتراب الوقت لموعد الإنطلاق الأخير للباصات الحكومية عند الساعة (11.45) من الساحات المركزية وسط العاصمة، أي قبل ربع ساعة من إنتصاف الليل، بدأ عقد المتظاهرين ينفرط، مهرولين نحو تلك الساحات للظفر بمكان في الباصات ليعودوا لبيوتهم، وهم يرتدون ملابسهم ثانية، ويرتجفون من برودة الجو.

عندما حل صباح اليوم التالي، كان كل شيء على مرامه، وكأن شيئا لم يكن، سوى أن معظم الذين شاركوا في تظاهرات الأمس عانوا من نزلات البرد والفلاونزا وإلتهاب الحنجرة وغيرها.

حدث كل ذلك في عهد الرئيس عبد السلام عارف الذي عرف وإشتهر بطائفيته المذهبية وعنصريته القومية.(1)

الصفحة الثانية:
عندما نهب صدام السلطة يوم 30 تموز 1968، بعد 13 يوم من نهب السلطة من الرئيس المسالم عبد الرحمن عارف بتخطيطالعميل ناصر الحاني، وبأوامر ودعم من المخابرات الأميركية (CIA)، توجس الناس خيفة من عودة حزب البعث الذي خلّف في ذاكرتهم جرائم يندى لها الجبين الإنساني خلال حكمه الأول في التسعة شهور من العام 1963.

فكان على قادة هذا الحزب تقديم كل ما من شأنه طمأنة الشعب ورسم صورة جديدة لهم، بأنهم رسل سلام ومسامحة لمحو تلك الصورة الدموية.

فتوزع قادة الحزب على المدن والمحافظات ليعقدوا ندوات جماهيرية يستقبلون فيها الأسئلة من الحضور مكتوبة على قصاصة من الورق دون تحفظ، ويجيبون عليها الرفاق دون تحفظ.

وكنت حاضرا في أحد تلك الندوات التي ترأسها الرفيق صلاح عمر العلي، وكان من بين الأسئلة: ما هو موقفكم من الماركسية؟!

فأجاب الرفيق صلاح، ان حزب البعث حزب ماركسي تقدمي، ويؤمن بالإشتراكية وووإلخ.

فدفع أحدهم بقصاصة جديدة سائلا فيها:

إذا كنتم ماركسيون فما هو موقفكم من الإسلام وبخاصة الشيعة؟

فشرح الرفيق بكياسته المعروفة عن إيمانه بالإسلام كدين للدولةومنبع لكل العقائد القومية، ثم عبر عن إستغرابه من الجزء الثاني من السؤال، وقال:
يسألني السائل عن موقفنا من أبناء شعبنا، فهل الشيعة أغراب حتى تسألني هذا السؤال؟ هل تعلم ان الرفاق الجالسين على يميني وعلى يساري شيعة؟
فتدخل أحد هؤلاء الرفاق مقاطعا بالقول:
ان منظمي هذه الندوة كلهم شيعة!.

ثم جرى همس وحديث غير مسموع بين صلاح ورفاقه، ليعود

هو محدثا:
إذا كنت تقصد موقفنا من الطقوس الشيعية بشكل عام، فأحب أن أقول لك، أن الطقوس الشيعية وبخاصة إحياء مناسبة عاشوراء كانت الجزء الأهم في التعبير عن وجدان الشعب وفي تثويره ورفضه للظلم، ونحن داعمين لأحياء هذه المناسبة، ففي خطبها ما ينبه المسؤول لمواطن الخطأ.

مرت شهور قليلة على تلك الندوة، وحل شهر محرم، لتتفاجأ المواكب الحسينية قبل يوم من 1 محرم بمنح كل موكب 250 دينارا (وهو رقم له قيمته المالية في ذلك الوقت)!، ولم يكن أمام رؤساء تلك المواكب إلا الشكر والثناء على القيادة والحزب، وقد تكررت هذه المنح لبضع سنوات، (غير متأكد من عددها).

لكن المفاجأة التي قصمت ظهر مجتمعنا، جاءت في العام 1977، عندما وجّهت الحكومة دوائرها الأمنية بمنع مسيرة ما يعرف (بزيارة الأربعين)!، دون وجود أي تبرير لذلك، ثم منعت ما يعرف بـ (ركضة طويريج)، وأيضا دون مبرر أمني، فوقعت الواقعة وحدثت مواجهات دفعت السلطة بقوات مسلحة مدعومة بدروع ودبابات، وأسفرت عن سقوط قتلى وعدد كبير من الجرحى، وإعتقال المئات من المشاركين، مات عدد غير قليل منهم أثناء التعذيب.

والأسئلة المنطقية هنا:
– لماذا إبتكرت الدولة فكرة المنح المالية لتنشيط هذه الطقوس، والتي كانت في طريقها للإنحسار؟
– هل هناك حكومة طوال سنوات الدولة العراقية الحديثة أقدمت على تقديم منح مالية للمواكب الحسينية؟ ولماذا أوقفت لاحقا؟
– لماذا بدأت أجهزة الدولة الأمنية لاحقا، بالتضييق على هذه المواكب، ثم منعها أخيرا؟
ما الخطر الذي تشكله هذه الجموع المسالمة، سوى بضع جمل ترد في الخطب والردات تدين الأنظمة العربية لتقاعسها عن رد العدوان الصهيوني في حزيران وووإلخ؟ والتي كانت (أي المجاميع الحسينية) ستعود من حيث أتت دون أي أثر سلبي على أمن الدولة؟

– لماذا لم تتصرف دولة العوجة بمثل ما تصرف عبد السلام عارف؟

فما الذي حصل بعد ذلك؟ وأين تكمن مسؤولية إبن العوجة عما وصلنا إليه اليوم من حالٍ مزرٍ ومعيب، ومن تطرف طقوسي إنفجر بعد العام 2003 ولا علاقة له إطلاقا بإحياء ذكرى إستشهاد الأمام الحسين (ع)؟

لقد تفنن نظام العوجة في مراقبة وملاحقة كل من يساهم وبأية رمزية كانت في إحياء هذه الذكرى، حتى في الزيارات لأضرحة الشيعة خلال المناسبات الخاصة بهم، أو حتى في رفع الرايات أو طهي الطعام إلخ.

ولا حاجة هنا للإسهاب في تعداد وقائع أساليب التضييق والحصار والملاحقة والإعتقال ناهيكم عن الإعدامات وغيرها، فأغلب العراقيون عاصروها أو قرأوا عنها.

منطقيا، ان كل تطرف يقابله تطرف، وان تطرف السلطة العوجيةلأكثر من عقدين من الزمن، كان لابد ان يوّلد تطرفا مضاعفا بعد إنهيار ذلك النظام البوليسي ولجوء زعيمه الى حفرته الميمونة.

وما يعمّق الجرح في المشهد الاجتماعي العراقي، أن ردة الفعل الإنفجارية ساعة وقعت، كان قطاع الجهلة والأميين قد تضاعف مرات ومرات منذ عقد الثمانينيات، كنتيجة متوقعة لما قامت به سلطات العوجة من تدمير للبنية الثقافية، وملاحقة وتهجير قطاع واسع من المثقفين والمستنيرين، يضاف إليها الحروب والحصار والتجويع وإنهيار كامل للإقتصاد، فكان طبيعيا أن تنتقل العصى من يد الطاغية الى يد هؤلاء الجهلة والسفلة لعيثوا في الأرض فسادا وتشويها وتخلفا وترديا غير مسبوق.

ووصل الأمر حدا عجز معه عقلاء وزعماء الشيعة الدينيين من وقف هذا المد الجاهلي الذي بلغ مبلغا مليئا للأسف الشديد بالبدع والتقليعات، لدرجة تحولت فيها المناسبة الحسينية الى كرنفال للسخرية والمساخر، ومهرجان للتنفيس عن مكنونات الجهلة والسفلة والمنحطين، وبدع أقل ما يقال عنها أنها معيبة ومخزية، طمست كل معاريف ونبل وتفصيلات هذه المناسبة أو (الصولة الأخيرة لليسار الإسلامي ضد اليمين) على حد وصف الكاتب أحمد عباس صالح في كتابه اليمين واليسار في الإسلام.

بل وبلغ الأمر سوءا حد قيام هؤلاء السفلة بشتم وتكفير كل من يقف ضد مدهم الجاهلي، والدكتور الراحل أحمد الوائلي رحمه الله نموذجا.  

(1) : (كنت شاهدا على هذه الحكاية الواقعة، أما نص المحادثة بين رئيس الجمهورية ومدير الأمن العام أنور ثامر، فقد سمعتها شخصيا من لسان الأخير، وهو يقصها على ضيفه وقريبه الشيخ أمين الكبيسي رحمه الله (أحد أصدقاء أبي)، والذي رافقته يومها في زيارته تلك لدار مدير الأمن الواقعة بحي الجامعة والذي ما زال في موقعه في الشارع العام حتى اليوم).

[email protected]