بقلم غلين التسكولر ” أس أف غايت”
شهر كانون الثاني بداية العام 2004، كتب ابو مصعب الزرقاوي، ذلك الارهابي الجهادي اردني المولد الذي قاد التمرد السني في العراق، كتب رسالة الى زعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن. وفي رسالته تلك، وصف الزرقاوي الاميركيين بأنهم اكثر المخلوقات جبنا، وانهم سيرحلون عن البلاد بسرعة، الامر الذي دعا القيادي الجهادي الاردني الى التحول نحو عقبة كأداء لا يمكن تخطيها ممثلة في الاغلبية الشيعية في العراق، تلك الاغلبية التي وصفها بكونها تمثل تلك الافعى المختبئة والعقرب الخبيث الماكر والعدو الذي يتجسس، فضلا عن كون هؤلاء الشيعة يمثلون السم الذي يخترق جسد الاسلام.
ومع الموافقة الرسمية والدعم المالي من قبل تنظيم القاعدة، وعد الزرقاوي بحملة شعواء تقود الى تقويض استقرار العراق واستنهاض السنة وابادة الشيعة المرتدين. اما فيما يخص من ادعوا ان الامة الاسلامية لم تكن مستعدة لمعركة دامية، فقد كان جواب الزرقاوي حاضرا حيث قال “ان ذلك ما نريده بالضبط!”.
بعد ذلك بعامين، امكن لقنبلة تزن اكثر من 200 كليو غرام القتها طائرة اميركية من نوع F-16، امكن لها ان تصرع الزرقاوي بعد معلومة استخبارية دقيقة تماما. لكن جوبي ووريك يذكرنا انه بحلول تلك اللحظة، تمخضت شبكة الزرقاوي الارهابية ذات القيادة الاجنبية عن شيء، تمخضت عن ولادة شيء محلي اكثر خطورة وغدرا ومكرا.
في كتابه المعنون “الاعلام السود”، يروي ووريك، وهو مراسل لصحيفة واشنطن بوست ومؤلف كتاب “العميل الثلاثي: جنين القاعدة الكاذب الذي اخترق احشاء وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية”، يروي اكثر من 200 لقاء صحفي اجرى الكثير منها مع دبلوماسيين وضباط استخبارات، وذلك بغية تقديم سرد معمق وكاشف ومفصل لمصرع الزرقاوي، ذلك العقل الارهابي المدبر الذي لا يحتمل، فضلا عن صعود الحركة الخطيرة التي باتت تعرف الان بدولة العراق والشام الاسلامية المعروفة اصطلاحا بداعش.
برغم ان ووريك اعطى فسحة كبيرة جدا، في حينها، الى رواية المصادر التي قدمها على انها لا ترد ولا يمكن دحضها، فضلا عن اسباغه لسمة المصداقية الكبيرة لما وصفها ببصيرة الملك عبد الله الثاني عاهل الاردن، الا ان روايته للاخطاء والفرص
الضائعة التي ادت الى صعود داعش انما كانت حقيقية وصحيحة الى درجة اليمة من الصدق.
يخبرنا ووريك في كتابه كيف ان الزرقاوي اطلق سراحه من السجن بعفو ملكي عام صدر مع تولي الملك عبد الله عرش الاردن بعد والده الراحل، الملك حسين.
وفي العامين 2002 و2003، قررت ادارة بوش عدم قصف معسكر الزرقاوي الذي كان متمركزا شمالي العراق انذاك مخافة ان يؤدي ذلك الى عرقلة مشاريعها، انذاك، للاطاحة برئيس النظام العراقي السابق، الدكتاتور صدام حسين.
عبر التركيز على ابو مصعب الزرقاوي اثناء خطابه امام الامم المتحدة، تسبب وزير الخارجية الاسبق كولن باول بمنح الزرقاوي، على نحو غير متعمد، شهرة واسعة في انحاء العالم العربي.
و بعد غزو العراق وادعاءات الرئيس بوش عن انجاز المهمة، فأن ووريك يشير الى ان تعمد رفض مسؤولي الادارة الاميركية استخدام مفردة “تمرد”، عدا عن عدم صياغة استراتيجية ناجحة لمواجهة موجة التفجيرات الانتحارية المتصاعدة او الانهيار في هياكل السلطة المدنية في العراق، انما كان نتيجة مباشرة وقوية لقرارات الكارثية التي اتخذت بحل الجيش العراقي واقصاء اعضاء حزب البعث من مواقعهم الادارية في السلطة انذاك.
و ربما كان الاكثر جدلا ما قاله ووريك عن سياسة تسليح ما تعرف بالمعارضة المعتدلة في سوريا التي اتبعتها واشنطن، تلك السياسة التي دعمتها وزيرة الخارجية الاميركية السابقة هيلاري رودم كلينتون، والتي عزل بموجبها الرئيس اوباما بديل الاسلاميين الوحيد ذي المصداقية.
يقول ووريك “كما هو الحال مع بذرة حملتها ريح عاتية من بعيد”، حل الزرقاوي بأرض كان وقت نزوله بها مناسبا تماما، ارض كانت مهيأة ومعبئة لتمكينه من زرع جذوره عميقا. لقد كان الزرقاوي قادرا بحرفية عالية على ايقاد نيران توتر موجود اصلا تحت الرماد ما بين سنة العراق وشيعته، حتى وصلت نيران الحريق الى اقصى مدياتها. وعبر قيامه بحز رقبة بينك بيرج وقطع راسه بيده، وانتشار فيديو الدقائق الخمس المشين لذبح هذا الاميركي الشاب الذي توجه الى العراق بغية بناء ابراج الراديو عبر ارجاء العالم، فأن الزرقاوي وضع بنفسه معايير الارهاب ضمن عصر وحشي جديد.
يقول ووريك “لقد كانت ضربة عالمية مدوية بحق”.
وعلى النقيض من بن لادن الذي عادة ما يتحدث بهدوء ووداعة حيث كان يعيش مختبئا على الدوام، فأن شيخ “الذباحين” بلحيته وملابسه وسترته وشكله العام انما اصبح نموذجا عالميا يحتذي به الجهاديون الشباب من كل حدب وصوب.
لقد رفض الزرقاوي بعضا من قيم الاسلام الاساسية بما فيها تحريم قتل الابرياء، فضلا عن انه بدأ الحديث عن استعادة الخلافة ضمن رؤية لا تتعلق بالمستقبل البعيد، وذلك ليس لما بعد انهيار الانظمة العلمانية في الشرق الاوسط وانما ضمن الحاضر المضطرب الذي تعيشه المنطقة الان.
اما خلفاء الزرقاوي حسب ووريك، فأنهم لم يصمموا على اقامة حكومات اسلامية في سوريا والعراق وحسب، وانما يمتد تصميمهم الى تطهير الاراضي من كل المرتدين، وبالتالي عبدوا الطريق امام المشهد الاخير للمواجهة ما بين من يسمونهم المسلمين الحقيقيين من جهة، وغير المؤمنين من جهة اخرى.
من المؤكد ان ووريك لم يكن يعرف كيف يمكن ان تسير الامور والى اين يمكن ان تنتهي. لكنه يختم كتابه بالتطرق لصيحات ومشاعر الغضب والاستنكار التي صدرت عن مواطنين عاديين من ابناء قرى وهابية في المملكة السعودية ومن عمان عاصمة الاردن العالمية، تلك الصيحات والمشاعر التي تأججت جراء فلم الفيديو الذي بثه تنظيم داعش عن احراق الطيار الاردني معاذ الكساسبة حيا بالوقود داخل قفص حديدي بعد ان سقطت طائرته في سوريا بداية العام الجاري. كما ينهي ووريك الكتاب بالحديث عن قرار الملك عبد الله ارسال الطائرات الحربية الاردنية لقصف معاقل داعش ما بعد اعلان الارهابيين مطالبهم مبادلة سجناء تابعين لهم في المملكة مقابل اطلاق سراح الكساسبة رغم ان الاخير احرق حيا قبل ذلك بعدة اسابيع.
ويعترف ووريك بالاغراء الذي يمثله حكم تنظيم داعش في المناطق التي يسيطر عليها. ان هذا التنظيم يتحرك في مناطق الفوضى حيث تحصل الاشياء السيئة، الامر الذي يقدم مصدرا لاستقطاب وجذب الشبان الذين يرغبون بالقتال ضد الانظمة الشرق اوسطية المتسلطة اكثر من دوافهم الثيوقراطية في الحقيقة، تلك الانظمة التي سحقتهم ومعها الامم الاجنبية التي ساندتها منذ عقود.