23 ديسمبر، 2024 12:10 ص

عن أية مرجعية تتكلم يا سيدي ؟

عن أية مرجعية تتكلم يا سيدي ؟

شاهدت على شاشة احدى القنوات العراقية قبل أيام احد السياسيين العراقيين الشيعة يدلي بتصريح ( سياسي – ديني ) موجه الى المسلمين السنة في العراق خلاصته , ان كل شيعة العراق يتبعون مرجعية واحدة , في حين ان السنة ليس لديهم مرجعية , وبعد ان شرح الأستاذ كيف ان السيد (علي السيستاني الايراني الجنسية ) و ( التحالف الوطني الشيعي ) يمثلان المرجعيتان الدينية والسياسية الشيعية في العراق , طرح سؤالا قال فيه ( اين مرجعية المكون الآخر؟) يعني السنة ؟ ثم كرر اثناء توضيحه مفهوم المرجعية كيف ان السنة ليس لديهم مرجعية يمكن مخاطبتها والتفاهم معها حول شؤون البلد وادارته .
لقد طرح السيد االمذكور في كلامه مفهوما يؤمن به المسلمون الشيعة ويعتبرونه من اساسيات المذهب , وهو وجود سلطة مذهبية عليا يترأسها رجل دين واحد يتبعه ويرجع اليه كل اتباع المذهب في مجتمع معين , كالعراق مثلا , ووفقا لهذا المفهوم فان السيد علي السيستاني هو على رأس المرجعية العليا للشيعة في العراق , وقوله هو الفصل في الامور الدينية والدنيوية, ولا يجوز مخالفة ما يفتي به في كل الشؤون التي تعرض عليه , وما على المواطن العراقي الشيعي سوى قبول و تنفيذ وصاياه من دون اعتراض او مناقشة , وفي ايران هناك السيد الخامنئي على رأس المرجعية . من المعروف ان في المذهب السني لا يوجد مثل هذا المفهوم الذي يلتزم به الشيعة , ولا يوجد رجل دين سني يحتكر اتخاذ القرارات فيما يتعلق بالشؤون الدينية , واذا ما وجد رجل دين على رأس مؤسسة دينية سنية حكومية فان قراراته لاتكون بأي شكل من الاشكال نهائية او لا يمكن مناقشتها كما هو الحال في قرارات المرجعيات الشيعية وكذاك قرارات بابا الفاتيكان لدى المسيحيين الكاثوليك , لا يوجد في المذهب السني بشر معصومين عن الاخطاء عدا الأنبياء والمرسلين , واذا ما وجدت مرجعية دينية سنية فهي على شكل هيئة , وليس فرد , وحتى لو كانت مرجعية السنة هيئة فان قراراتها قابلة للمناقشة ,وهكذا فالقرارات الدينية في المذهب السني تتخذ من قبل هيئة وليس فرد .
هذه ناحية قد يجهلها بعض الشيعة , اما من الناحية السياسية فالمبدأ هو ( لا مكان للدين ولا للمذهب في تشكيل وادارة الاحزاب السياسية ), ففي العهد الملكي كان حزب الاستقلال الذي يرأسه محمد مهدي كبة يمثل الاتجاه القومي العربي ومن ابرز قادته السيد فايق السامرائي , والحزب الوطني الديمقراطي الذي برآسة السيد
كامل الجادرجي يمثل وسط اليسار ويضم بين قادته سنة وشيعة ومسيحيين , وحزب الاتحاد الدستوري الذي يرأسه السيد نوري السعيد ويضم شخصيات وطنية سنية وشيعية ومسيحية و كذلك غيرها من الاحزاب السياسية الوطنية . في ذلك العهد كانت الاحزاب السياسية باتجاهاتها المختلفة هي التي تلعب الادوار االاساسية في العملية السياسية , اما في عهد عبد الكريم قاسم فقد لعبت الشخصيات السياسية ادوارا تفوق الاحزاب السياسية في تأثيرها على الجماهير , كالزعيم عبد الكريم قاسم نفسه الذي الغى الاحزاب , ولم يشكل حزبا سياسيا لأنه كان يؤمن بأنه هو (زعيما أوحدا ) وكانت تلك غلطة قضت عليه قضاء مبرما , فلو بادر عبد الكريم قاسم بتشكيل حزب سياسي في تلك الفترة لما تمكنت حركة 14 رمضان من اسقاطه , لقد سقط عبد الكريم قاسم لأنه كان زعيما أوحدا انتهت زعامته بمقتله , ولو كان رئيسا لحزب سياسي جماهيري يتنافس في خدمة العراق مع الاحزاب الأخرى لبقي حزبه قائما وله قاعدة جماهيرية حتى اليوم .
أما الرئيس عبد السلام عارف فقد استلم بعد حركة 18 تشرين الثاني التي قضت على حزب البعث عام 1963 ساحة سياسية خالية من الاحزاب السياسية و جاهزة لادارتها من قبله , وقد استهوته تلك الحالة فظل وحده يلعب دور البطولة من دون أي منافس رغم قصر مدة حكمه الذي انتهى بمصرعه في حادث طائرة سمتية في البصرة مساء يوم 12-4- 1966 .
عندما تقلد الرئيس عبد الرحمن عارف مقاليد الحكم , الذي كان بمثابة هدية قدمت له من قبل مركز القوة الوحيد آنذاك وهو الجيش اثر مصرع شقيقه عبد السلام , اصبح الحكم في العراق أقرب ما يكون الى حكومة مؤقتة تدير شؤون البلد لحين تمكن احدى القوتين المتصارعتين في العراق أيامذاك من اغتصاب الحكم بعد استبعاد الرئيس عبد الرحمن عارف , وهما ( القوميين الناصريين بقيادة عارف عبد الرزاق والبعثيين بقيادة احمد حسن البكر ) كان العراقيين في عهد عارف الثاني في حالة انتظار دامت حوالي ثلاث سنوات الى ان تمكن حزب البعث في 17 تموز عام 1968 من استعادة السلطة التي فقدها يوم 18 تشرين الثاني 1963 وذلك بعد فشل الناصريين مرتين في الاستحواذ على الحكم .
لقد الغى البعثيون كل المنظمات و الاحزاب السياسية , واصبح تشكيل اي تنظيم سياسي عبارة عن جريمة عقوبتها الاعدام , هكذا عاش العراقيون تحت حكم حزب البعث العربي الاشتراكي من يوم 17 تموز 1968 لغاية يوم 9نيسان 2003 تناوب اثنائها احمد حسن البكر وصدام حسين على رئاسة الجمهورية .
بعد ان احتلت الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها العراق في نيسان 2003 بتأييد ودعم واضح من المرجعية الدينية الشيعية و المعارضة السياسية لنظام صدام حسين ( بكل مكوناتها ), الذي كان نظاما دكتاتوريا استبداديا لا دينيا ولا قوميا رغم رفعه شعارات قومية و دينية احيانا , لجأت واشنطن الى وضع أسس نظام حكم غريب على العراق والعراقيين , هدفه تفتيت وحدة الشعب العراقي بكل مكوناته واطيافه عن طريق تشكيل ( مجلس الحكم ) الذي كان عبارة عن دعوة علنية لمكونات الشعب العراقي للتخلي عن انتمائهم العراقي لصالح انتمائهم الديني او المذهبي او القومي ضمن مكونات الشعب العراقي , وقد تبرع السيد نوري المالكي فيما بعد ( عندما اصبح رئيسا للوزراء ) لتوضيح ذلك في اجابته عن سؤال وجهه له مراسل احدى الصحف الامريكية الكبرى, بخصوص انتمائه بالدرجة الاولى كمواطن عراقي بقوله ( أنا شيعي قبل ان اكون عراقي ) لم يقل ( انا مسلم شيعي ) بل أكد على انه شيعي قبل ان يكون مسلما وقبل ان يكون عراقيا , على الرغم من ان جنسيته تنص على انه عراقي , وان ديانته تؤكد انه مسلم , لكن شعوره المذهبي يطغى على الجنسية وعلى الدين , لقد اعلن المالكي تخليه عن جنسيته ودينه وتشبثه بمذهبه وهو رئيس وزراء .
لا يمكن للاحزاب الدينية او المذهبية او القومية او العنصرية أن تتسلم الحكم وتنجح في ادارة السلطة في مجتمع متعدد المكونات والديانات والقوميات خصوصا في الدول النامية كالدول العربية والاسلامية , هذه حقيقة يجب على كل من يعمل في السياسة ان يفهمها , اما الحقيقة الثانية فهي عدم قدرة الكتل والجماعات الدينية والمذهبية والعنصرية على التفاهم وجمع الكلمة ( فيما بينها بصورة منفردة ) من اجل تشكيل حزب ( سياسي – مذهبي ) او ديني او قومي لقيادة العملية السياسية في بلد شعبه متعدد المكونات.
خلاصة ما ورد اعلاه هي..( لا يمكن بأي حال من الأحوال تشكيل احزاب دينية او مذهبية او عنصرية او قومية قادرة على استلام الحكم وقيادة بلد مثل العراق ) لماذا ذلك ؟ اجابتي على هذا السؤال ستكون عبارة عن اشارات لمواقف حالية , او احداثا ماضية قريبة , تؤكد وتوثق ما أود بيانه واثباته للقاريء الكريم .
1- سقط نظام صدام حسين , رغم تشبثه الدموي بالسلطة , لثلاثة اسباب مهمة ورئيسية , اهمها انعزال نظام الحكم عن الشعب لصالح العشيرة وحزب البعث الذي افرغه صدام من كافة مضامينه و جعله ذيلا له , والثاني التمسك بالشعارات القومية العربية في مجتمع من اكثر المجتمعات والشعوب تنوعا من حيث القوميات والاصول في المنطقة , واخيرا اشعاله حربا ضد جار غير
عربي ثم عدوانه على بلد عربي تحت شعار ( امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ).
2- فشل محاولة حزب قومي هو حزب البعث العربي الاشتراكي في قيادة شعب متعدد القوميات والمكونات .
3- لقد اثبتت الاحداث منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003 فشل محاولة تشكيل احزاب دينية في العراق . للاسباب التالية :-
أولا – الخلافات الحادة التي تصل الى حد القتل بين قادة حزب الدعوة الاسلامية وانقسامه وتشتته وتبعثره الى تيارات وكيانات متصارعة .
ثانيا- فشل كل المحاولات في تشكيل حزب اسلامي ( سني ) رغم وجود تكتل متشرذم لا تأثير له ولا يمتلك قاعدة جماهيرية سنية اسمه الحزب الاسلامي .
ثالثا – الخلافات السرية و العلنية بين الاحزاب الاسلامية والسياسية الشيعية , كالخلافات الشديدة بين الصدريين وحزب الدعوة ودولة القانون وغيرها .
رابعا- تخلخل ما يسمى بالتحالف الوطني باعتباره ( تكتل مذهبي شيعي ) مما جعل ايران تفشل في محاولة جمع الكلمة ولم شمل الاحزاب والتيارات والكيانات الشيعية في تحالف سياسي مذهبي واحد متماسك .
خامسا – فشل الكيانات الشيعية المتعددة في اختيار رئيس للتحالف الوطني الشيعي مما دفع ايران الى التدخل واجبار الجميع على قبول السيد عمار الحكيم امينا عاما للتحالف رغم اعتراض عدد من الشخصيات الشيعية كنوري المالكي وغيره ومقاطعتهم حضور اجتماعاته .
سادسا- فشل السنة في تشكيل تحالف يمثلهم رغم وجود ( تحالف ) القوى الذي لا يمثل سوى منتسبيه فقط وليس السنة .
سابعا – فشل الكرد في تشكيل حزب او تحالف او كيان موحد متماسك يمثلهم رغم حصولهم على مكسب مهم وهو اقليم كردي واحد لكنه يضم احزابا وتكتلات كردية مختلفة ومتعارضة تصل الخلافات بينهم الى حد الاقتتال , وقد جعل ذلك من استقلال الاقليم حلما بعيد المنال .
4 – المرجعية الدينية لدى الشيعة هي بمثابة شماعة يعلق عليها المتشددون الشيعة شعائر دينية بعضها منطقية مقبولة والبعض الآخر بعيدة عن المنطق والواقع مما يجعل منها ( اي المرجعية ) مرحب بها من قبل بعض الشيعة المتعصبين ومرفوضة من قبل الآخرين , وفي هذا الصدد نحن لا ننسى رفض السيد نوري المالكي يوم كان رئيسا للوزراء للنقد الذي وجهه له السيد علي السيستاني بشأن سياسته الداخلية في تصريح صادر عن رئاسة الوزراء ( على المرجعية الدينية ان لا تتدخل في الشؤون السياسية ) .
5 – كل من يعتقد ان التحالف الوطني هو عبارة عن تجمع مذهبي شيعي يضم تنظيمات واحزاب ومليشيات متجانسة و متماسكة تحضى باسناد ودعم الشيعة في العراق هو واهم , لأن الخلافات والعداوات مستشرية بينهم وتصل الى حد الأقتتال كما حدث في البصرة عندما اعدم نوري المالكي قيادات محلية صدرية يوم وصوله بحماية قوة بريطانية في عهد وزارته الاولى , ولا تزال العلاقات مقطوعة تماما بين دولة القانون والصدريين الذين ينتظرون سنوح الفرصة للأنتقام من ابي اسراء المالكي وقد ثبت ذلك اثناء زيارته الاخيرة لمدن الجنوب عندما استقبل بالاحذية في البصرة وميسان والناصرية
اما السنة فحدث ولا حرج , لأن تحالف القوى الذي من المفروض انه يمثل المكون السني هو غير مذهبي ولا يمثل السنة , كون السنة بصورة عامة لا يؤمنون بالتنظيمات او الاحزاب المذهبية , باعتبارهم ليسوا اقلية في العراق ( كما يدعي البعض ) و في ذات الوقت هم اكثرية مطلقة في كل الدول الاسلامية في العالم اجمع عدا ايران .
مما ورد اعلاه نستنتج بكل وضوح ان العملية السياسية في العراق التي ولدت في 2003 أثبتت أنها متهرئة ومهلهلة ومتفسخة و يشوبها في كل اركانها فساد لم يشهد له العراق مثيلا منذ تأسيس الدولة العراقية . ان السبب في ذلك هو حلول الاحزاب المذهبية ( ولا اقول الدينية لأنه لا يوجد حزب ديني في العراق ) بدلا من الاحزاب السياسية في ادارة العملية السياسية , بتأثير النفوذ الايرني الذي اجتاح العراق بعد الاحتلال الامريكي في نيسان 2003 وموافقة واشنطن على الهيمنة الايرانية بالحدود التي ترسمها الادارة الامريكية نفسها , مما جعل العراق :-
1- من أكثر الدول فسادا في العالم .
2- خزينة الدولة العراقية خاوية .
3- اكثر من ثلاثة ملايين مهاجر ومتشرد يعيشون في الخيام داخل العراق بعد اجبارهم على ترك قراهم م منازلهم .
4- احتلال عصابات داعش لمدن وقرى عراقية منذ اكثر من عامين .
5- منع معظم سكان المدن والقرى المحررة من العودة الى اماكن سكناهم .
6- ما زالت الحكومة العراقية تبحث عن الف مليار دولار فقدت من الخزينة العراقية في ظروف غامضة منذ سنين أثناء حكومة نوري المالكي .
7- عودة المدارس الطينية الى الظهور من جديد في العراق .
8- تصدير النفط العراقي من دون عدادات منذ عام 2003 حتى اليوم , مما تسبب في حدوث هدر لا يمكن حسابه .
9- صدور قانون الحشد الشعبي الذي يضم ميليشيات مذهبية مسلحة ( بعضها تأسس في ايران ) لأضفاء الصفة القانونية على مجموعة مسلحة من دون ان ترتبط بوزارة الدفاع وخارج سيطرتها .
10- تخريب شبه شامل للمدن والقرى التي تتحرر من احتلال داعش مثل تكريت وجرف الصخر والرمادي والفلوجة ومنع معظم السكان من العودة اليها كونهم سنة .
11- تلكؤ القوات الحكومية والحشد الشعبي والعشائري في تحرير محافظة نينوى منذ اكثر من شهرين , واحداث تخريبات جسيمة غير مبررة في مدينة الموصل كتدمير الجسور التي تربط جانبي المدينة .
12- سيطرة الضابط الايراني قاسم سليماني قائد فيلق القدس الايراني على فعاليات الحشد الشعبي العراقي , وتصريح وزير الخارجية ابراهيم الجعفري ان هذا الشخص هو مستشار عسكري لدى الحكومة العراقية شأنه شأن المستشارين العسكريين الآخرين ( يقصد الامريكان ) .
13- تصريح النائب هادي العامري قائد مليشيا بدر ان منظمته التي تشكل العمود الفقري للحشد الشعبي اصبحت اكبر قوة في العراق بما في ذلك الجيش العراقي والشرطة العراقية .
14- تفشي تناول المخدرات القادمة من ايران بين الشباب من مدنيين وعسكريين بشكل لم يسبق له مثيل .
15- عشرات الآلاف من الموظفين والعسكريين الفضائيين الذين تصرف لهم مليارات الدنانير شهريا .
16- صرف مليارات الدولارات على مشاريع وهمية أو غير منجزة .
17- بيع المناصب والوظائف في معظم وزارات الدولة بالدولار .
من كل ما ورد اعلاه نستنتج بما لا يقبل الشك ان خلاص العراق يتوقف على الخلاص نهائيا من الاحزاب الدينية و المذهبية ( هي والقائمين على شؤونها ) و ادارة العملية السياسية باحزاب لا دينية ولا مذهبية ولا قومية تتنافس فيما بينها على تقديم ما يستحقه العراق من تضحيات كما يحدث في دول العالم , لأن تجربة الحكم في العراق خلال السنين التي تلت سقوط نظام صدام حسين الاستبدادي عام 2003 جعلت العراقيين يشمأزون من الاحزاب الدينية ويشعرون بحاجتهم للنظر الى الأمام وليس الالتفات الى الخلف .
هل أدركت أيها القلريء العزيز لماذا يسعى التحالف الوطني الآن لتسويق مشروعه المشبوه المسمى ( التسوية التاريخية ؟ ) .