عندما وصلنا الى موسكو في ستينيات القرن العشرين , أدهشتنا ظواهر عديدة , لأنها كانت جديدة بالنسبة لنا , ومن بين تلك الظواهر الواضحة تماما كانت العناية الفائقة جدا بالاطفال من قبل الروس , لدرجة , ان أحد طلبتنا المرحين أطلق على الاطفال حينها تسمية – ( أصحاب الجلالة في المجتمع الروسي !!!) , وعندما ازدادت معرفتنا باللغة الروسية (بعد دراستنا الاكاديمية لها) , اكتشفنا , ان هناك أدب متنوع جدا (لاصحاب الجلالة هؤلاء!!!) , أدب يرتبط حتى بمراحل أعمارهم منذ السنوات الاولى , اذ تبيّن , ان هناك (أدب خاص!) لهم يستمعون اليه ( اي قبل تعلّمهم القراءة ) , ويتقبلونه بحب واهتمام وهم في بدايات حياتهم , وقد شاهدت ( بام عيني !) اطفالا روس يكررون تلك الحكايات الشعبية ويعرفون أبطالها ووقائعها , ويطالبون آبائهم وامهاتهم باعادتها امامهم قبل ان يخلدوا للنوم , وعمرهم أقل من ثلاث سنوات !!! , وهذا النوع من الادب يساهم طبعا – وبشكل دقيق و واضح جدا – في تربية الطفل وبلورة افكاره المستقبلية و شخصيته لاحقا , وغالبا ما أتذكّر قول استاذنا في مادة (علم التربية) باول محاضرة له ( وكنّا في الصف الثاني بكلية الفيلولوجيا في جامعة موسكو للعام الدراسي 1961/ 1962) , حول سيدة جاءت اليه وقالت له , ان ابنها بلغ خمس سنوات من عمره , وسألته – متى ابدأ بتربيته ؟ فقال لها رأسا – لقد تأخّرت خمس سنوات ياسيدتي .
أدب الاطفال موجود عند الشعوب كافة , بما فيها طبعا شعوبنا العربية , ولكن الاهتمام بهذا الادب وتدوينه و رعايته وتطويره يختلف عند مختلف تلك الشعوب , والظاهرة التي نود الاشارة اليها والتأكيد عليها بالنسبة لادب الاطفال في روسيا تكمن بالذات في الاهتمام الكبير وغير الاعتيادي هذا , وكذلك في التقسيم الدقيق جدا لادب الاطفال حسب اعمارهم ومداركهم , لدرجة , اننا لاحظنا كتابة ذلك حتى على أغلفة كتب الاطفال تلك , اذ توجد على الاغلفة كتابات واضحة تشير , مثلا , الى ان هذا الكتاب للاطفال ( قبل المدرسة !) , وذاك الكتاب للاطفال في المراحل الاولى بالمدارس , وهذا الكتاب للاحداث ….الخ , اضافة الى ان هذا الادب يرتبط باسماء ادباء كبار في تاريخ الادب الروسي ( لأن ادب الاطفال يتقبله الصغار والكبار , وفي هذا تكمن اهميته وروعته ودوره , فكل واحد من الصغار والكبار يجد في هذا الادب جماليته وعمق معانيه ! ), فكريلوف , مثلا , الذي أسميناه مرّة في احدى مقالاتنا عنه ( ابن المقفع الروسي ) كان ولايزال ( منذ نهاية القرن الثامن عشر ولحد الان , ونحن في العقد الثالث للقرن الحادي والعشرين) واحدا من تلك الاسماء الادبية اللامعة للقراء الروس الصغار والكبار على حد سواء , وتحولت الكثير من المقاطع في حكاياته حتى الى أمثال وحكم روسية ترد في احاديث الروس , ويمكن القول نفس الشئ كذلك بالنسبة لبوشكين , فحكاياته , التي كتبها شعرا , لا زالت ( ولحد الان ) في طليعة الكتب المطلوبة للقراءة في روسيا, ولجميع القراء من صغارهم الى كبارهم , وغالبا ما تعيد دور النشر الروسية طباعة تلك الحكايات باشكال جذّابة , وتزيّنها بلوحات فنية جديدة , يرسمها فنانون تشكيليون روس معاصرون , وتعتبر هذه الكتب أجمل هدية يقدمها الروس للاطفال في مختلف المناسبات , وكم تمنينا ( نحن العرب الذين شاهدنا هذه الظاهرة الرائعة ان نحذوا حذوهم , ونتخلص من عادة منح النقود للاطفال !) , وقد التقيت جارتي قبل ايام , وكانت فرحة جدا , وعندما سألتها عن السبب , فقالت لي , انها وجدت في مخزن بيع الكتب طبعة جديدة في غاية الجمال لحكاية بوشكين عن الصياد والسمكة , واشترتها , وستقدمها قريبا هدية الى حفيدتها بعيد ميلادها , وقد ضحكت انا , وقلت لها , انك أخبرتيني مرة , ان حفيدتك تحب هذه الحكاية و تعرفها عن ظهر قلب , فقالت , نعم , هذا صحيح , ولكن هناك رسومات ملوّنة رائعة في هذه الطبعة الجديدة , وانا متأكدة , ان حفيدتي ستفرح كثيرا عندما تشاهدها .
يستحق أدب الاطفال اهتماما كبيرا , لانه يرتبط بمستقبل الامة باكمله , ويؤسفني ان اشير في نهاية هذه الخواطر السريعة جدا , الى ان أدب الاطفال في روسيا بقي مجهولا بالنسبة لنا , نحن العرب , رغم بعض الترجمات التي ظهرت هنا وهناك , ولم يحاول اي طالب عربي ان يدرسه في روسيا ويتخصص به حسب معرفتي المتواضعة , رغم ان هذا الادب يمتد من القرن الثامن عشر ولا زال يتفاعل بحيوية وازدهار وتطور في المجتمع الروسي الى حد الان , ويؤدي دورا متميّزا في مسيرة هذا المجتمع …