23 ديسمبر، 2024 11:04 ص

.. هناك عنف لا نتحدث عنه، نمرّ عليه في مرافعاتنا، مرور الكرام، وهو العنف السلوكي في البيت والمعمل والمؤسسة والشارع، لا يقل خطورةً عن بطش الإرهاب، الذي ينتهي بمجرد القضاء على أدواته، لكن العنف الاجتماعي متأصّل في الثقافات والعادات والتقاليد، ويوغِل في الانتشار، في بيئة تنتعش فيها الأسباب.

يصفع المعلم، التلميذ في المدرسة، وتسهم فيديوهات الميديا في نشرها على نطاق واسع، فيما تطورت طرائق التربية، في دول، وانتعش فيها الوعي الحضاري، فيلجأ التلميذ الى المعلم، قبل الوالدين، في أسراره ومشاكله.

في مشاهد يومية، يُعنَّفُ الطبيب في المستشفيات، ويتعرض الى الانتقامات العشائرية، لأسباب شتى. ولا يسلم المحامون من أعمال الثأر التي يقوم بها أشخاص وعصابات.

الاحتجاجات تنقلب الى بيئة زاخرة بالعنف، حتى بين المتظاهرين أنفسهم، وتنتهي الخلافات الى مناوشات، واشتباكات، ويزداد العنيف وحشية، بعد نجاحه في الذوبان في الجماعة المتظاهرة، محتمياً بها.

وروى لي صديق أنّ متظاهرا في ساحة التحرير، لم يسلم من التهديد من محتجين شاركهم التظاهرة، فأما ان يرفع ذات الشعارات، أو يُطرد.

وتحت وطأة من الشعور بالقهر والاستلاب، يتنقّل المواطن تحت تـأثير الانعكاسات اللاواعية للعنف ضده، حاملا أوراقه بين طوابير الموظفين، الذين ينظرون إليه بازدراء، فيما هو يحاول أنْ “يتمسكن” أمام جبروت الكراسي، عسى ان يرحمه صاحب القرار ويحسم طلبه، و تحت وطأة سيكولوجية الإنسان المقهور، فان هذا المواطن لا مانع لديه من منح “الرشاوى” تحت عباءة “الهدية”، كي تُنجز أوراقه.

يقع تحت هذه التأثير حتى الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم “واعين” اجتماعيا، و”متنوّرين”، ويرفضون الاسهام في مكافحة الفساد، إذ حدثني صديق مقيم في ألمانيا، انه دفع نحو مائتي دولار في العراق، كي تُنجز “أوراقه”.

وحتى نقاط التفتيش الأمنية، آلت الى شكل من العنف المتبادل بين المواطن ورجل الأمن، في علاقة ناجمة عن الإحساس بالعجز وقلة الحيلة وانعدام الوسيلة أمام وسائل السلطة، وهو سلوك لا يرقى الى مستوى السلوك المتحضر الذي رسّخته الشعوب في حياتها اليومية.

مقابل ذلك، يحاول المواطن الانتقام من رموز السلطات، عبر التشنيع والاشاعات، والنكات، ضدها، في الشارع والتواصل الاجتماعي، في شكل من أشكال العنف “اللفظي” وإرهاب “المعلومة”، ناجم عن الاحاسيس الاضطهادية للمواطن، بسبب نقص الخدمات، وتعقيد المعيشة.

لا تبتعد ظاهرة تخريب الممتلكات العامة، أيضا عن كونها عملية ثأرية من النخبة، من قبل أفراد الفئة الاجتماعية الهشة الشاعرة بالإقصاء والتهميش.

وفي حين يجتاح عنف الملاعب الرياضية، الدول، فانه يتنامى في العراق أيضا، بمستوى أكثر خطرا بسبب انعكاسات الطائفية والقومية والمناطقية عليه، فيما يمكن وصف ما يحدث في دول أوربا -على سبيل المثال لا الحصر – بانه عنف “رياضي” خالص لا تنحسب عليه، المشاكل السياسية والاقتصادية.

وعلى رغم انحسار العنف الطائفي بشكل واضح في العراق، لكن الخشية من عودته تبقى ماثلة، بسبب شعور فئات بالقهر السياسي والاقتصادي، فضلا عن تنامي الشعور بالهويات الفرعية، بدلا من الوطنية.

حوادث انتحار على جسور نهر دجلة في بغداد بين الحين والآخر، تمثل حالة عنفية، يقترفها انسان اضطربت عنده منهجية التفكير، مبرزةً ذهنية انفعالية في وجدانه، تشعره بعدم وجود قيمة له في الحياة.

العراق من بين دول قلائل في العالم، يتناسل فيه قهر المرأة واستلاب حريتها، فيما الثأر العشائري، يتفاقم حيث قانون القبيلة فوق السلطة الرسمية، وانتزاع الحق من خلال الحوار بات وسيلة غير مجدية.. في شرعنة عرفية للعنف.

غير ذلك الكثير.. لكن المهم، في إعادة الاعتبار للمشاعر الراقية، والسلوك المتحضّر، ونبذ التضخم النرجسي، الفردي والمؤسساتي، والعمل على التأسيس لآليات مستدامة تعزّز ثقافة السلوك السلمي، بين الأجيال الجديدة، وترتيب أنماط السلوك، في مجتمع متحوّل يرفض الجمود على الحالة التي هو فيها.