في زمن ارتقت فيه إمكانيات التوثيق والتواصل إلى قمتها، آثرنا أن ننفض الغبار عن «العنعنة»، فهذا يحدثنا عن ذاك، وذاك ينفي ما قاله ذاك. وهُم، جميعهم، يضيفون ويحرِّفون وصولا إلى اختلاق النص الذي يناسبهم، ليبقى الخبر اليقين مبنيا للمجهول ما شاءت إرادة الطبقة الحاكمة.
إن الغموض يلف الكثير من القضايا الحساسة التي تتعلق بمستقبلنا كشعب، فنحن نجهل ما سيجري لنا في اليوم القادم لأننا نعيش على القدرة، فلا ستراتيجية ولا بطيخ، والتواصل بين الشعب والحكومة شبه منعدم، فرئيس الوزراء السيد نوري المالكي لا يطلّ على الشعب إلا حين يريد هو، وليس حين يجب ذلك. وهذا أمر يسهل تتبعه وإثباته. ففي موضوع ابدال مواد الحصة التموينية ببدل نقدي، انبرى المالكي شخصيا لإقناع الشعب بجدوى ذلك القرار.
ولكن حين أُلغِيَت صفقة السلاح الروسي، لم نلق من المالكي سوى الصمت المطبق، وتَرَكَنا تحت رحمة المسؤولين الآخرين الذين ادلوا بتصريحات متضاربة ومضطربة اختلط فيها الشخصي والعام. وازداد الطين بِلـَّة حين تصدى نواب البرلمان للموضوع، فنحن نعلم جيدا أن كل شيء يفسد ويتدنس حين يطأ عتبة مجلس النواب العراقي الذي لا يعدو عن ماخـُورٍ لحزمةِ مشبوهين يروجون لصفقات مشبوهة.
ليس نوري المالكي وحده من ارتضى العنعنة وسيلة لنقل الاخبار، فجلال طالباني فعل ذلك أيضا؛ فقد خـَوَّل الاخيرُ آزاد جندياني، المتحدث باسم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، ليُعَبـِّرَ للمالكي، وليس للشعب، عن انزعاج الرئيس منه وليرسل له تهديدا صريحا بأن ملف حجب الثقة يمكن فتحه في أية لحظة يشاء. وللأمانة، فإن طالباني لم يجد نفسه معنيا يوما بالتواصل مع الغالبية العربية التي تشكل أكثر من 80% من الشعب العراقي، وحصر اهتمامه بأكراد كردستان وتركمان كركوك لاستمالتهم لصالح ضم كركوك للإقليم.
إن وسائل الإعلام لا تعدم استخدام العنعنة، فحين ازالت امانة بغداد «الاكشاك ومواقع بيع المأكولات ومعروضات الكتب والمطبوعات على الارصفة» غير القانونية في شارع المتنبي؛ دُبـِّجَت المقالات المُسْتَنْكِرة لِما اقدمت عليه امانة بغداد اعتمادا على السماع دون أن يلجأ أي محرر لتقصي حقيقة ما جرى عبر زيارة موقع الحدث (ومعه هاتفه النقال) لالتقاط الصور وإجراء المقابلات التي تعزز (أو تنفي) ما اشيع عن اعتداءات تعرض لها الباعة. يكاد الهاتف المحمول أن يتفوق على كل وسائل التوثيق الأخرى، فهو يؤدي مهمات التلفزيون والراديو والكاميرا والتلفون وجهاز الإرسال والاستقبال. ولتعداد كل المهمات التي يؤديها المحمول، فالقائمة ستطول كثيرا.
أما امتناع المرجعية الدينية في النجف الاشرف عن التعليق والتفاعل مع الأحداث والمخاطر الكبرى التي تحيق بالوطن فهو أمر يبعث على الحيرة والألم في آن. فصمْتُ المؤسسات الدينية الكبرى ذات التأثير الروحي على الجماهير أمر غير معهود حتى في الامم العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة وتنعم بالاستقرار الاجتماعي، فقداسة بابا الفاتيكان له رأي في كل شيء ابتداء من الاجهاض وحتى أزمة سوريا، وكذلك شيخ الازهر ومرشد جمهورية إيران الاسلامية، إلا نحن؛ فمراجعنا الكبار ابعد ما يكونون عن التواصل مع الجماهير، ولا يتحدثون إلا عبر وسطاء شبه مرئيين.
وقَصَرَت المؤسسة الدينية الأكبر في العراق حضورها على خطبة الجمعة التي يلقيها فضيلة الشيخ عبد المهدي الكربلائي الذي مابَرِحَ يطالبُ ويدعو ويرجو وينادي ويندد ومصطلحات أخرى تذكرنا ببيانات الجامعة العربية المكررة التي لا تستحق ثمن الحبر الذي كتبت به والتي لا يعدو تأثيرها قاعة الاجتماع.
وبدلا من أن اتمادى في النقد والتنديد والشكوى كغيري ممن انتقدتهم، فإنني اقترح على السيد رئيس الوزراء أن يستعير النموذج الذي يتبعه الرؤساء الامريكان منذ عقود عبر مخاطبة الشعب الأميركي كل يوم احد من كل اسبوع من خلال بيان اذاعي يلقيه الرئيس شخصيا. انني لا أرَوِّج للكفار أو لقوات الاحتلال، بل اقترح استعارة تجربة خلاقة تؤمـِّن التواصل بين رئيس الوزراء نوري المالكي والجماهير. انني أرجو رئيس الوزراء أن يجرّب هذا الاقتراح، وسيكون مصدر إلهام للعديد من الزعماء والمسؤولين فيحذون حذوه.
امّا نواب البرلمان، فلا فائدة ترتجى من اغلبهم، فإنْ صمتوا فهم منشغلون بصفقاتهم المُريبة، وإن تحدثوا فـَهُم يدلِسُّون ويَبُثـّون الفتنة واليأس. لهذا، حين يرد ذكرهم فإنني اعوذ بالله لي ولكم منهم ومن الشيطان الرجيم، وابتهل إلى الله العلي القدير أن يكفينا شرورهم وأكاذيبهم.
ملاحظة:
• الماخور: بيت الرَّيبة. [المصدر: المعجم الوسيط]
• عَنْعَنَ الرَّاوي : قال في روايته : روى فلان عن فلانٍ عن فلان. [نفس المصدر اعلاه]