17 نوفمبر، 2024 2:39 م
Search
Close this search box.

عنصرية الغرب والتميز العنصري وتصنيف البشر عرقيا

عنصرية الغرب والتميز العنصري وتصنيف البشر عرقيا

تبدو مهمة تفسير ومقاربة وتتبع ارتباط الفكر والفلسفة الغربية بالعنصرية، مهمة شاقة ومركبة. ذلك أن هذا الارتباط موغل في التاريخ، حتى قبل دعوات الإصلاح في القرون الوسطى، التي تسببت بقيام الحروب الدينية في أوروبا، ورسخت مفهوم التمييز العنصري كواحد من أشد الظواهر خطورة على البشرية، حيث كان الدافع الرئيسي خلف مجازر الإبادة التي ارتكبها البيض بحق السكان الأصليين في أمريكا، وما لحق الأفارقة من عذاب الاتجار بالرق. إن كثير من الحروب والمذابح والمآسي البشرية تمت كنتيجة للأفكار العنصرية التي نشأت في أوروبا ودعمتها الكنيسة. حتى التيار البروتستانتي الذي انتفض على فساد الكنيسة، والتيار الفلسفي التنويري والفكري الحداثي لاحقاً الذين نادوا بالمساواة والعدالة والإخاء، وضعوا التقسيمات العنصرية، وصنفوا البشر حسب اللون والعرق، ووضعوا الجنس الأبيض أفضلهم وأكثرهم رقياً. هذه الأفكار والنظريات الفلسفية أحدثت حروباً وخراباً ودماراً عانت منه البشرية كافة. وحيث تعتبر الأدبيات الثقافية العربية أن التوسع الاستعماري الغربي قد أدار ظهره للمبادئ التي رسخها العصر التنويري، كشف هذا فهماً صوفياً عاطفياً لدى العرب لحقائق تاريخية معقدة. فقد قام الفكر التنويري المعاصر، بتقديم تبريراً أيديولوجياً للحركات الاستعمارية التي تزامنت وتشابكت معه. وأحدث تحولاً هاماً في خطاب الهوية الأوروبية، يقوم على أساس استبدال الفوقية الروحية الدينية بالفوقية العرقية للإنسان الأبيض. وهكذا فإن فلاسفة التنوير كانوا من المؤمنين بالفوقية العنصرية والتراتبية بين الأعراق.
النظريات العنصرية التي تؤمن بتفوق الشعوب الأوروبية على دونها من الشعوب، وتطور العرق الأبيض على ما سواه، جعلت الغرب عموماً يعطي نفسه الحق في التحكم بمصير الشعوب والأمم الأخرى، ونهب مقدراتها لتعمير ونهضة بلدانهم. بلا شك حيث تكون العنصرية تغيب العدالة بين البشر، ويفتقد الناس حقوقهم، حيث تسود العلاقات على أساس مفاهيم الاستعلاء والغطرسة والفوقية، وهي أبرز الشرايين التي تغذي الاستبداد والقهر والإرهاب والتطرف والكراهية.

فلسفة العنصرية – الكراهية والعنصرية تعود أساساً إلى كونها موقفاً ذهنياً فكرياً قبل أن تتحول وتصبح سلوكاً اجتماعياً وفعلاً ومتشدداً. وتعود بعض البذور الثقافية التي أسست لفلسفة التمييز العنصري في الغرب، إلى كتابات ومواقف بعض الفلاسفة التنويريين الأوروبيين، الذين اعتقدوا أن الحياة مبنية على تعارض وتناحر الأجناس البشرية، أي صراع بين الأنواع المتحضرة ضد الأنواع المتخلفة. وتغاضوا عن حقيقة السيرورة التعددية للحضارة البشرية. قاموا ببناء رؤيتهم الفلسفية على قاعدة حتمية التخلف البنيوي لجميع الثقافات الأخرى غير الأوروبية، وتم تقسيم الناس إلى بشر واشباه بشر بحسب نظرية الانتخاب الطبيعي، مما وفّر البيئة لظهور النزعات العنصرية والأفكار اليمينية المتشددة لاحقاً في أوروبا، مثل النازية والفاشية والصهيونية، وأحدث فكراً قومياً شوفينياً، تسبب بقيام نزاعات إقليمية وأشعل حروباً عالمية. الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت” رغم كونه أضاف للفكر الإنساني الكثير عبر نظرية المعرفة، إلا أنه واحداً من أهم المفكرين الذين دعوا إلى تصنيف الأجناس البشرية بحسب المعايير العرقية بشكل سافر. قام بتقسيم البشر على أساس اللون، واعتبر أن أصحاب البشرة البيضاء هم أكثر الأنواع البشرية ذكاءً وفاعلية ومقدرة على بناء الحضارات. ثم يأتي أصحاب اللون الأصفر في الدرجة الثانية، في الدرجة الثالثة يأتي أصحاب البشرة السوداء، ومن خلفهم بقية الأجناس الأخرى، وفي الأسفل الهنود الحمر الذين صنفهم “كانت” أسوأ الأجناس وأقلهم تطوراً وذكاءً. فيما الفيلسوف والاقتصادي الأسكتلندي “ديفيد هيوم” أكد في كتاباته على أنه لا ينتابه أدنى شك في أن الزنوج وكافة أنواع البشر الأخرى، هم بالفطرة طبيعياً في منزلة أدنى من مستوى الإنسان الأبيض. حتى فكرة الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” حول فلسفة أخلاق القوة التي تعتمد إقصاء الضعفاء والمرضى، تأثر بها كثيراً الفيلسوف الألماني الشهير “مارتن هيدجر” الذي اعتبره النازيون أنه فيلسوفهم والكاهن الأكبر للفكر النازي. والتحق بهم البروفيسور الألماني وعالم الأنثروبولوجيا “يوجين فيشر” صاحب فكرة تعقيم البشر لبقاء الأفضل وإبادة الأدنى، وفكرة القتل الرحيم للمعاقين. وهو الذي أجرى تجارب عرقية لدعم فكرة أن الألمان أصحاب العرق الآري هم العرق الأسمى، وهذه التجارب مهدت الطريق لقدوم الفلسفة النازية وصعود أفكار هتلر العنصرية. فيما صاحب كتاب “دراسة حول التفاوت بين أعراق البشر” المفكر الفرنسي المعاصر “آرثر دي كوبينو” يرى أن اختلاط الأعراق وتزاوجها هو السبب خلف انحطاط الحضارات وسقوطها، ويؤكد في كتابه أن القضية العرقية هي صانعة التاريخ، ويُظهر تعصبه للعرق الآري، حيث ذكر أن الآرية تنحدر حين تختلط بالفنون الزنجية. وهي الأفكار التي ألهمت هتلر لاحقاً وأصدر بسببها قانون التعقيم وتحديد النسل في العام 1933.

نقد الفلسفة العنصرية – كافة الفلاسفة الأوروبيين الحداثيين بدءًا من الألماني “رينيه ديكارت” في القرن السابع عشر، والفرنسي “جان جاك روسو” و “إيمانويل كانت” وصولاً إلى الألماني “كارل ماركس” في القرن التاسع عشر، مروراً بالفلاسفة الألماني “فريدريك نيتشه” والبريطانيون “جون ستيوارت ميل” و “توماس هوبز ” و “جون لوك” كانوا يؤمنون بأن المجتمع السياسي الذي تمثله الدولة، قد نشأ من خلال عقد أبرمه الناس فيما بينهم، يسمى العقد الاجتماعي. وجميعهم ماديين ومثاليين تبنوا مناهج فلسفية بمقدمات عقلية، وضعت سمو الإنسان والعقل البشري في مركز تنظيراتها. رغم ذلك فقد تعرّض بعض المفكرين الغربيين للفلسفة الأوروبية ضمن سياقها التاريخي، وعلاقتها مع الآخر غير الأوروبي، بهدف إجراء مقاربات لمعرفة علاقة الفلسفة الأوروبية بتياراتها الأساسية، الليبرالية والعقلانية والتجريبية، بالعنصرية والكراهية. في مضمار مدى تكيف بعض التيارات الفلسفية مع العنصرية، يؤكد المفكر والفيلسوف والأكاديمي الأمريكي في جامعة كاليفورنيا “ريتشارد بوبكين” أن التيار التجريبي الذي يرتكز على أن معارف البشر يتم اكتسابها من خلال التجارب الحسية، هو أكثر تلائماً مع الأفكار العنصرية، من التيار العقلاني الذي يعتبر أن الناس تكتسب معرفاها بأساليب مستقلة عن تجاربها الحسية. السبب برأيه يعود كون التيار التجريبي في مقاربته التجريبية الحسية يقوم برفض المكونات المشتركة والفطرية بين البشر، مما يخلق بيئة تجعل من الاختلافات بين الناس فروقات في إطارات عنصرية. هذه الأفكار نقضها عدد من المفكرين وقلبوها رأساً على عقب، واعتبروا أن التيار العقلاني هو الاتجاه العنصري أكثر من التيار التجريبي. يذكر “جون رودجر سيرل” أستاذ الفلسفة بجامعة كاليفورنيا، وأحد أبرز الفلاسفة المعاصرين وأوسعهم تأثيرًا، أن الأمر يحتاج فقط خطوة واحدة للانتقال من نظرية الفيلسوف الألماني “رينيه ديكارت” حول العقل إلى نظرية الاستعلاء والعنصرية، في حين يحتاج أكثر من قرن من الزمان فيما لو قررنا الانتقال من نظرية الفيلسوف الأسكتلندي “ديفيد هيوم” حول المنهج التجريبي للعلوم الوضعية نحو العنصرية. ويضيف سيرل أن السبب يعود إلى أن الإنسان أو الأفكار أو الفلسفة إذا اعتقدت أن هناك مكونات فطرية ذهنياً لدى البشر، فإنهم يكونوا على مقربة خطوة واحدة من أن يصبحوا مستعدين للنقاش في وجود مكونات فطرية لدى أصحاب عرق ما، أفضل أو أسوأ من تلك الموجودة لدى أعراق أخرى.

المفكر والأكاديمي الأمريكي “جورج فريدريكسون” أستاذ التاريخ في جامعة ستانفورد، والرائد في علم دراسة الأيديولوجيات المقارنة للعرق والعنصرية، يؤكد في كتابه “العنصرية تاريخ مختصر” أن الفكر والسلوك العنصري باعتبارها ظاهرة حديثة نسبياً، قد تكون متشابكة بشكل مباشر مع أممية المقاييس الأخلاقية والعقلانية التي دعت لها معظم التيارات الفكرية الحديثة. وهو يفترض أن الفكر والفلسفة لو انطلقا من رؤية هرمية لا تفترض مسبقاً المساواة بين البشر فيما يرتبط بقضايا الأخلاق والعقل، لما كان هناك حاجة في الأساس للتمييز بين الناس بشكل عنصري. لكن بمجرد الافتراض أن البشر متساوون عقلياً وأخلاقياً فإن هناك ضرورة سوف تظهر لتقديم تفسير وتبرير عدم التساوي الموجود في الواقع، وهذا سوف يفتح الأبواب لكافة أنواع الأفكار والتحليل والتبرير والتفسير العنصري.

في جانب آخر فإن المفكر والأكاديمي الأمريكي الجنوب أفريقي “ديفيد ثيو غولدبيرغ” المتخصص بعلم الأنثروبولوجيا، يقول في كتابه “ثقافة عنصرية.. فلسفة وسياسات المعنى” أن العنصرية تكمن في روح وقلب التنوير والعقلانية. ويرى أن التمييز الفكري بين التيار التجريبي والتيار العقلاني فيما يرتبط بعلاقة التياران واستجابة كل منهما للعنصرية شيء لا معنى له. ويعتبر أن كافة هذه التيارات تدعم العنصرية، ولديها إمكانية سهلة للتكيف مع العنصرية. ويضيف فكرة لافتة تقول إن الليبرالية الحديثة التي نشأت وتشكلت بالتوازي والتداخل المتشابك مع العنصرية، تحمل في داخلها عنصرية مضمرة، خاصة فيما يتعلق بمحاولة الفكر الليبرالي تطبيع التمايز والفروقات التي يضيفه هذا الفكر على معاني العقلانية والأخلاق التي تميز الإنسان الأوروبي عن سواه من بقية البشر. ماذا عن نظرية “العقد الاجتماعي” التي تعتبر واحدة من أهم نظريات الفلسفة السياسية الحديثة، والتي طورها ثلاثة فلاسفة، البريطانيان “توماس هوبز” و “جون لوك” والفرنسي “جان جاك روسو”. إن المفكر والفيلسوف “تشارلز ويد ميلز” الأمريكي الجامايكي أستاذ الفلسفة في جامعة نيويورك، والمختص بعلم الأعراق والأجناس يقول عنها أنه على الرغم من سمتها العالمية، إلا أن النظرية قد صيغت بشكل ومحتوى عنصري. لأن العقد الاجتماعي كان اتفاقاً بين الرجال البيض، وأن مضمون العقد يتمحور بصورة رئيسية حول كيفية تهميش وإقصاء الآخرين غير البيض، وكيفية استغلالهم، لأنهم غير مؤهلين للمشاركة في هذا التعاقد، وهي قمة العنصرية العرقية

عنصرية الفلسفة – كثير من الاتهامات يتم توجيهها إلى الفلسفة الغربية، منها خوفها من الآخر وصل حد الكراهية، وكونها تفتقد الخيال وسعة الأفق، وأنها تجاهلت الفلسفة في الشرق والصين والهند.

على سبيل المقاربة فإن النظرية “الكونفوشيوسية” خلت من الميتافيزيقيا مثل قضايا الخلق والآخرة، فهي كانت في الأساس مذهب فلسفي في الأخلاق وعلم الاجتماع والسياسة، ومع مرور الوقت تحولت إلى مذهب ديني. وهنا يمكن ملاحظة المفارقة بين الشرق والغرب، إذ تتحول الفلسفات في الشرق إلى أديان ومذاهب صوفية، بينما في الغرب تجري علمنة الفلسفة والثقافة وعلم الاجتماع والسياسة، حتى الدين تمت علمنته. الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت” تعامل باحتقار ودونية مع الفيلسوف الصيني “كونفوشيوس” حيث أنكر ذات مرة وجود فلسفة في سائر بلاد المشرق، وقال أن “الكونفوشيوسية” لم تضيف أية تعاليم جديدة على العقيدة الأخلاقية المصممة في الأصل للملوك والأمراء الصينيين. بل ذهب إلى حد اعتباره أن أي من مفاهيم الفضيلة والأخلاق لم يدخل عقول الصينيين أبداً. كثير من الفلاسفة الغربيين غير “كانت” يعتبرون أن الشرقيين عاجزون عن إنتاج الفلسفة. ويؤكدون أن أصل الفلسفة إغريقي تمت وراثتها من الفلاسفة اليونانيين القدماء. على اعتبار أن منشأ العلوم يحدد نوع الثقافة والفكر. لكن ألم يأخذ الأوروبيين علوم الجبر والفلك والطب والكيمياء عن العرب؟ إذن لماذا لا تسمى هذه العلوم باسمها العربي في الغرب؟ الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا” المثير للجدل والأب الروحي لنظرية “التفكيكية” التي تتحدى أسس الفكر الغربي، تصرف بوقاحة في إحدى المرات أثناء وجوده في الصين، حين أنكر وجود فلسفة في الصين، وأن ما هو موجود هي أفكار فقط، وقال إن الفلسفة لا توجد إلا في أوروبا، وأنها ترتبط بتاريخها ولغتها وبإرثها الإغريقي. مصطلح “الهمجي النبيل” ورد اسماً لشخصية في مسرحية الكاتب الإنجليزي “جون درايدن” في القرن السابع عشر، وتمثل الشخصية السكان الأصليين لأمريكا. ويجسد مفهوم الهمجي النبيل أن البشر كانوا قبل الحضارة خيرون، قبل أن تلوثهم وتفسدهم تأثيرات الحضارة الغربية. المذهب الخيري اعتمدته البعثات التبشيرية اليسوعية في أمريكا وأفريقيا، لخلق مجتمعات خالية من الرذيلة. الهمجي النبيل إنسان بدائي لم يتلوث حضارياً، ولكنه يُمنع من المشاركة في ثقافة أعلى منه وأكثر تفوقاً. وهو مصطلح عنصري مقيت. في فترة التنوير الغربية نشر الفيلسوف الفرنسي “جاك جان روسو” فكرة الهمجي النبيل في عقده الاجتماعي، فرد عليه مواطنه التنويري “فولتير” ساخراً أنه حين قرأ كتاب روسو عن نظرية العقد الاجتماعي شعر برغبة في السير على أربع قوائم، لكنه فقد هذه العادة منذ ستين عاماً. مع ذلك هناك بعض الفلاسفة والمفكرين الغربيين يعترفون بوجود فلسفة في الشرق، لكنهم يضيفون بأنها ليست بمستوى ورقي الفلسفة الأوروبية. وأن كل شيء في الشرق يعتمد الانفعالية واللاعقلانية والمراهقة. في القرن الثامن عشر اعتبر الفيلسوف الألماني “كريستيان وولف” أنه بالإمكان وجود نظام أخلاقي بصورة منفصلة عن الأديان، ودافع عن ثقافة الشرق، فقام المحافظون المسيحيون بالتصدي له وطرد من بروسيا. والبعض من المؤرخين الغربيين قال إن أصل الفلسفة من الهند قبل أن تسافر للإغريق، لكن تيار “إيمانويل كانت” استبعد الشرق من قانون الفلسفة حين أعادوا كتابة تاريخها، وجعلوا منها فلسفة مثالية من الناحية النقدية كي تبدو في أفضل حال. وهكذا تم التوافق من قبل المثقفين الغربيين على قبول فكرة تفوق العرق الأبيض، وأنه لا يوجد جنس أخر قادر على إنتاج وبلورة فلسفة غيرهم. “كانت” كان إنساناً عنصرياً حين رتّب الأعراق البشرية بشكل تفاضلي، من الأحسن الأرقى إلى الأسوأ الأدنى، وربط موضوع الأعراق والأجناس كقضية علمية، بالقدرة على التفكير. ومن مفاهيم وأقوال “كانت” المثيرة للجدل والتي لا تخلو من مضامين عنصرية، أنه يعتبر العرق الأبيض يمتلك جميع المواهب الفطرية. والهنود يمتلكون السكينة، يبدون كالحكماء لكنهم يميلون للانفعال والغضب. والصينيون أمة جامدة لا يعلمون عن الحاضر أكثر مما تعلموه في الماضي. والأفارقة شعوب حيوية لكنهم ثرثارون، يمكن تعليمهم لكن فقط كخدم. أما الهنود الحمر برأيه فإنهم قوم غير قابلين للتعلم، كسالى لا يمتلكون المشاعر ولا الخيال.

نظرية اليوجينيا – في العام 1869 قام عالم البيولوجيا البريطاني “فرانسيس غالتون” بوضع قواعد علم “اليوجينيا” المختص بتحسين الصفات الوراثية للعرق البشري، والتحكم في السلالة البشرية عبر مراقبة التفاوت العرقي للحد من تكاثر من لا يستحقون البقاء، مثل المعاقين والمتخلفين ذهنياً والسود. وكشف عن نزعته العنصرية البغيضة حين اعتبر أن البشر ليسوا سواسية. وتقوم النظرية على أساس أن التطور الصحيح للجنس البشري قد انحرف عن مساره الطبيعي، لأسباب تتعلق بنزعة الخير والإنسانية التي أبداها الأثرياء تجاه الفقراء غير الصالحين وتشجيعهم على الإنجاب، وهو ما أفسد آلية الانتخاب الطبيعي، لذلك لا بد من التدخل وإحداث انتخاب صناعي لإعادة الجنس البشري إلى مساره الطبيعي. وبعكس نظرية “تشارلز داروين” التي تعتبر أن الأصلح هو الذي يترك نسلاً أكثر، ترى نظرية اليوجينيا أن الأصلح هو المتميز في الذكاء والصحة والأخلاق. هذه النظرية تسببت في تمرير قانون التعقيم في الولايات المتحدة عام 1927، وقادت النازية للقيام بحملات التعقيم القسري لغير الصالحين والموت الرحيم العام 1933 واستمرت للعام 1939. وألهمت هذه النظرية هتلر بأفكاره حول أهمية خوض الحروب للتخلص من البشر المتخلفين، لأن التقدم يعتمد على البقاء للسلالة الأفضل. ولذلك أمر بإخصاء حوالي نصف مليون من المرضى المزمنين ومن المعاقين والمعتوهين. اللافت أن هذه النظرية الكريهة شكلت حالة في بداية القرن العشرين، انضم لها وتعاطف معها كثير من كبار المفكرين والمثقفين والعلماء والساسة والفلاسفة ورجال الدين والأعمال. أبرز هؤلاء الفيلسوف والمفكر البريطاني “برتراند راسل” الذي أصدر ما يزيد عن مئة كتاب وتوفي العام 1970. وكذلك الكاتب الإيرلندي “جورج برنارد شو”، والأديب الإنجليزي “هربرت جورج ويلز”، والكاتب الروائي الإنجليزي “الدوس هيكسلي”، ورئيس الوزراء البريطاني السابق “ونستون تشرشل”، والرئيس الأمريكي السابق “فرانكلين روزفلت”، والفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” وسواهم. وشكلت اليوجينيا العباءة التي خرجت من تحتها كافة الحركات والجماعات والأفكار العنصرية اليمينية المتشددة في أوروبا. على أثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، تم الكشف عن كثير من الفظائع التي ارتكبت بسبب الأفكار اليوجينية، وتم اعتبارها نظرية عنصرية. لكن في العام 1988 أصدرت الصين قانوناً “يوجينياً” يحظر زواج المعاقين ذهنياً إلا بعد تعقيمهم حتى لا يتناسلوا. وظهرت هذه النظرية مرة أخرى في الولايات المتحدة العام 1993 عندما نشر المفكر الأمريكي “صامويل هنتغتون” مقالة في مجلة الخارجية الأمريكية التي كان يديرها بعنوان “صدام الحضارات، قبل أن يصدره في كتاب العام 1996. ورغم تعرض نظرية صدام الحضارات لانتقادات، إلا أنها تحولت إلى مرجعية مركزية في تحليل أحداث السياسة الدولية بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. وأصبحت عقيدة للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة وأوروبا، الذين اعتبروا أن الحروب الأيديولوجية قد انتهت مع انهيار الشيوعية، وأن الحروب المقبلة هي حروب ثقافية حضارية. وبات العالم يسمع عن نظريات متطرفة في بداية الألفية الثالثة تؤكد حتمية الصدام بين الشرق والغرب، وبين الشمال الثري والجنوب الفقير، وتجرأ بعض المفكرين الغربيين على القول إن “اليوجينيا” هي الحل لضمان بقاء ونقاء العرق الأبيض.

عنصرية القومية العربية – في أواسط القرن التاسع عشر، تمت زراعة بذرة الأفكار القومية العربية في بلاد الشام، للتخلص من الهيمنة العثمانية والحفاظ على اللغة العربية، فتم تشكيل عدد من الجمعيات، كان أبرزها “الجمعية العلمية السوري” التي تأسست العام 1857. وظهرت النزعة القومية بقوة في تلك الجمعية، نلاحظ ذلك من خلال إحدى قصائد “إبراهيم اليازجي” التي ألقاها سراً في أحد الاجتماعات، يقول مطلعها: تنبهوا واستفيقوا أيها العرب…فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب. وشكلت القومية حركة سياسية كبيرة، وانتشرت لاحقاً في العالم العربي، خاصة في بلاد الشام ومصر والعراق، ولم تتمكن من الوجود بقوة في أقاليم عربية أخرى مثل دول الخليج وبلدان المغرب العربي. وتأسست بأفكارها أحزاباً وتيارات شهيرة مثل البعث والناصرية، وقامت عليها دولاً، قبل أن تؤدي الإخفاقات الكبرى التي منيت بها القومية إلى خفوت فاعلية هذا التيار. معظم الأحزاب والحركات الليبرالية في العالم العربي، استلهمت مبادئها من الأفكار الغربية الحداثية. فيما سعت الأحزاب القومية نحو تعزيز وتعميق الشعور والانتماء القومي لدي الجماهير العربية، جنوح بعضها نحو الإيغال في التمسك بالقومية تسبب في نشوء تيارات متشددة قومياً، وأسس لنشر ثقافة الكراهية تجاه الأقليات في المنطقة العربية. معظم الدول العربية التي تسكنها أقليات عرقية أو دينية لم تتمكن من نسج علاقة صحية مع هذه الأقليات، ولم تنجح في إحداث مقاربات ومعالجات موضوعية لتقويم العلاقة، بل أن بعضها لم يسعى إلى ذلك أصلاً. وبعض الأنظمة العربية مارست أنواعاً من القهر والقمع بحق أبناء الأقليات القومية الأخرى. واحتكمت علاقة معظم هذه الأنظمة مع الأقليات على اعتبار أن أي اعتراف لهذه القوميات بحقوقها، والسماح لها بممارسة تلك الحقوق، سوف يؤدي في النهاية إلى الانفصال عن الدولة الأم. وهذا تعتبره الأنظمة تهديداً جدياً وخطيراً للوحدة الوطنية، إذن هو فعل الخيانة بعينها، الذي يستحق مرتكبها العقاب الشديد. بالرغم من كون هذه الدول وقادتها وثقافتها وهويتها كانوا خلال فترة خضوعهم للاستعمار هدفاً للاضطهاد والإلغاء والإدماج بالإكراه. بعض القوميين العرب المتشددين ذهب إلى إنكار وجود الأقليات في العالم العربي، واعتبرهم من صنيعة الاستعمار، وأنهم في أفضل الأحوال “رواسب تاريخية، بل مستحاثات ينبغي أن تخضع من جديد لقانون التفتت والذوبان ثم الاندماج” بحسب ما جاء في كتاب “الدولة القطرية والنظرية القومية” للمفكر السوري “جورج طرابيشي” الذي صدر العام 1982. كان من الطبيعي أن تنفجر مشكلة الأقليات في الوطن العربي، كنتيجة مباشرة لتجاهل الفكر القومي العربي للواقع التعددي العرقي والإثني والديني للمجتمعات العربية، والذي من شأنه أن يكون مصدراً للثراء والتنوع الحضاري والثقافي، لو سلك التيار القومي العربي درباً مختلفة في علاقته مع الأقليات. إن حقيقة ما يدعو للاستغراب ليس أصوات الأقليات في العالم العربي التي تطالب بحقوقها، بل المستهجن ألا يفعلوا ذلك في راهن عربي كارثي يندى له الجبين. فالهزائم القومية العربية في مختلف القطاعات. لا وجود لدولة القانون والمواطنة. لا نجاحات ولا إنجازات اجتماعياً وتعليمياً. إخفاق مفزع في مشاريع التنمية المستدامة. فشل مركب في القطاعات الاقتصادية. ثقافياً وفكرياً الصورة مرعبة وتربك العقل السليم. قومياً حالة من التفتت والتشرذم العربي رسخت الحالة القطرية. سياسياً تبعية كاملة للولايات المتحدة والغرب. فيما يتعلق بأحوال الأمة العربية ووحدة مصابها، فإن الخناق الصهيوني يشتد على العنق الفلسطيني بمساعدة بعض الأشقاء العرب. وإن قرعت الأقليات باب الإنصاف، يثور القوميين العرب، وترتفع أصواتهم باتهام الأقليات العمالة لإسرائيل وللإمبريالية المعادية للعرب. ولم يتوقف هؤلاء القوميين مرة أمام السؤال البديهي الكبير: لماذا تشعر الأقليات بالغبن والظلم؟ وما الذي أوصل بعضهم المطالبة بالحكم الذاتي أو الانفصال؟ أليست هي مجمل السياسات القومية العربية غير الصائبة؟ الإجابة دون تردد هي نعم.

الشرق الغائب – في اليوم العالمي للفلسفة الذي تنظمه اليونسكو منذ العام 2005 في ثالث خميس بشهر نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام تحضر الفلسفة الغربية، وتغيب “أم العلوم” بوجهها الشرقي، حيث لا تزال الفلسفة بعيدة عن شعوب العالم الأخرى في أذهان معظم الأوروبيين، حيث لا يمكن تصورها سوى بهويتها الغربية، ولا زال أغلب الفلاسفة والمفكرين الغربيين يؤكدون أن الفلسفة إغريقية الجوهر.

في راهن عربي منقسم غير منسجم، متشابك ومعقد المفاهيم، متخم بالصراعات والقتل والحروب، يبدو الحديث عن البحث العلمي الفكري والمقاربات الفلسفية النظرية، وإجراء قراءات نقدية للفكر الفلسفي الأوروبي الحديث، وكأنه ترفاً ثقافياً لا حاجة فكرية فلسفية مهمة. خاصة في بيئة ما زالت لا تعير الفلسفة أية اهتمام أو قيمة لا على المستوى الرسمي ولا الشعبي. كما أن موقف المثقفين العرب من الفلسفة الأوروبية منقسم وغير منسجم، بين من يعتبرها مقدسات نظّر لها ودافع بقوة عنها، والبعض اعتبر أنها شر وهاجمها وحذر منها. نحتاج في واقعنا إلى إجراء مقاربات وقراءات ونقد التراث الفكري لنا ولغيرنا، من خلال رفع القدسية عنه، ودراسته وتحليله ضمن سيرورته وسياقه التاريخي الإنساني. إن مواجهة المحظور والتصدي للأفكار العنصرية لا يكون مثمراً إلا حين يتأسس على قيم وأفكار مغايرة عما يفترض مواجهته. بدون قبول الاختلاف وتقبل الآخرين، وبغير التمسك الحقيقي والفعلي بإحداث المساواة بين البشر في الكرامة والحريات العامة والحقوق الأساسية، لن يكون خطاب مواجهة العنصرية إلا خطاباً عنصرياً بحد ذاته.

أحدث المقالات