10 أبريل، 2024 2:43 ص
Search
Close this search box.

عند نافذة خريف العمر

Facebook
Twitter
LinkedIn

.حياناً تختلط ألأحلام بالحقيقة لدرجة أننا لم نعد قادرين على تمييز الواقع المزري الذي نعيشه كل يوم مع ألأحلام التي تراودنا كل ساعة لا بل كل لحظة . أصبحت قضية إضافة الخدمة العسكرية إلى راتبي التقاعدي قضية معقدة جداً لدرجة أن دوائر عديدة تتراسل فيما بينها وموظفون كثيرون يتناوبون فيما بينهم كل ساعات العمل الوظيفي لحلها ولكنهم يعبثون بأوراقهم وسجلاتهم بلا جدوى. أصبحتْ مهمة ذهابي إلى ساحة الوثبة – حيث العمارة الشاهقة التي توجد فيها القاعة رقم -36- في الطابق الثاني مزاراً – مقدساً – لي كل شهر أو كل عشرة أيام لمتابعة تلك المعاملة المعقدة. بدأت رحلة العذاب هذه منذ شهر نيسان من هذا العام إلى هذه اللحظة التي أخط فيها هذه الكلمات بألم وحسرة. تسعة أشهر وأنا أحلم حُلماً بسيطاً جداً- وهو واقع ملموس لأن إضافة الخدمة العسكرية لراتبي هي حق من حقوق كل شخص في هذا البلد كان قد أحيل إلى التقاعد – . كان الصباح شديد البرودة والرياح تعصف من جهات مختلفة تجعل دموع العيون لكل المارين تتطاير بسهولة من أعينهم على أذقانهم. دلفتُ مع الجموع البشرية الطاعنة في السن نتدافع نحو المصاعد المزدحمة كأننا نسير نحو حتفنا ألأخير في هذا الزمن المرعب بكل أشكاله. وقفتُ مع الجماهير الطاعنة في السن وسط القاعة رقم 36 نتدافع فيما بيننا كأننا أطفال مدارس إبتدائية في يومهم ألأول. المنظر مبكي حزين جداً وطريف وظريف حد الموت من الضحك. هذا يصرخ بأعلى صوتهِ – بالله عليك لاتدفعني رجلي مكسورة..والآخر يصرخ أيها الرجال تراجعوا إلى الوراء لأن نافذة الشباك ضيقة ولن نستطيع رؤية الموظف الذي سيأخذ معاملاتنا..والآخر يتحسر ويضرب يداً بيد ويوصل لنا جميعاً فكرة بأنه كان قد أمضى في التدريس الجامعي لمادة الكيمياء ثلاثون عاماَ وهو يقف ألآن كشحاذ عند هذه النافذة التي يتربع على عرشها موظف وسيم لا نريد ان نذكر اسمه . لو كان ألأمر يستدعي إستخدام القوة الجسدية والعضلات للوصول إلى النافذة الصغيرة لكنت – الفارس ألأول- الذي يحقق ألانتصار في هذا الميدان..لأنني بالنسبة لجميع المراجعين – شاباً يافعاً تحلم به كل عذارى العالم. صرخ الموظف بصوته الضعيف غير المسموع ” ..كل مجموعة تضع أسماءها في قائمة لكي أستدعيكم حسب ألأسماء ” . إندفعتْ الجموع الهائجة كل واحد يسجل أسمه في قائمة . كان نصيبي القائمة الرابعة الرقم 13 المشؤوم. تراجعتُ إلى الوراء حزيناً مهموماَ أحتقر الساعة التي قررتُ فيها أن أحيل نفسي إلى التقاعد مع العلم أنني أحتاج خمسة عشر عاماً للوصول إلى مسألة التقاعد. لظروف شخصية قررتُ إحالة جسدي إلى مكان إسمهُ دائرة التقاعد العامة.
لم أستطع ألانتظار في ذلك المكان الخانق بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى وقررت النهوض والغوص في أعماق المدينة ساعات لحين قدوم دوري. حاولت التقدم نحو النافذة لتوجيه سؤال بسيط وإعلام السيد الموظف بأنني ذاهب وسأعود بعد ساعتين هل هذا مسموح. لم أستطع لأن جموع الزائرين كانت تمنع أي حركة. تراجعت إلى الوراء ووضعتُ كلا يديَّ حول فمي وصرختُ بأعلى صوتي ” ..سيدي الموظف ..هل أستطيع الذهاب إلى المدينة والعودة بعد ساعتين ” . تحول المكان إلى صمت رهيب , كان الجميع ينظر إليَ كأن صدمة كهربائية شلت حركتهم جميعاَ. ضحك الموظف وهو ينهض مبتسماً وقال ” ..إذهب ياعم وتعال بعد 3 ساعات..” . ركضتُ نحو السلالم فرحاً كأنني جندي كان قد حصل على إجازة دورية من مسؤوله الذي لايعرف الرحمة في تاريخ الحروب البشرية كلها. قررتُ الذهاب إلى مطعم من الدرجة ألأولى وتناول أفخر فطور لديهم ومن بعدها الغوص في أعماق الشورجة وشراء ماكنتُ أحلم به أيام طويلة. سأصرف هذا اليوم نصف راتبي التقاعدي وليحترق العالم. في اللحظة التي وصلتْ فيه قدماي إلى منتصف السلم الطويل سمعت إمرأة تقول ” ..نوّار…نوّار ..خذ يدي لم أعد قادرة على الصعود…” كان الشاب قد تراجع إلى الوراء عدة خطوات وهو يقول ” ..تقدمي ياماما لازلتِ شابه ..”.كان صوت المرأة موسيقياً رائعاً كأنني كنتُ قد عزفتهُ في نبضات قلبي عشرات المرات. نظرتُ ناحية المرأة وإذا بها حبي ألأول عام 1978 حينما كنا في الصف الثاني في كلية ألآداب – قسم اللغة ألانكليزية. بلا شعور صرختُ ” ..– فوزية..فوزية.. ” توقفتْ المرأة. عدّلت نظارتها الطبية. إبتسمت بهدوء وهي تسألني عن سبب قدومي إلى هذا المكان. كانت لحظات رومانسية من أجمل لحظات زمن الخريف . أراد نوّار أن يدفعني إلى الوراء إلا أنها صرخت به صرخة بأعلى صوتها ” ..نوار..نوار..إنتظرني في القاعة 36″ . تراجع الشاب الضخم إلى الوراء وراح يركض نحو القاعة كطفلٍ صغير. مسكتْ يدي وطلبتْ مني سحبها إلى الطابق الثاني. كان إسمها آخر شخص في القائمة 4. شرحتْ لنوار كل شيء وطلبت منه ألأِنتظار قرب النافذة وبقينا نتبادل أطراف الحديث ساعات طويلة. مضى على وجودنا أكثر من ثلاث ساعات ونحنُ نستذكر كل شيء كان قد مر بنا. عند نهاية الدوام كان الموظف قد سلمني ورقة مكتوب عليها أن أراجع بعد شهر. نهضنا بأتجاه المصاعد الكهربائية. قلت لها أنه من المستحيل الحصول على مكان وإقترحتُ عليها النزول على ألأقدام. أراد نوّار أن يمسك يدها ليساعدها لكنها طلبت منه أن يذهب لتحضير سيارتها وأخبرته بأنني سأذهب معهما إلى بيتها لتناول طعام الغداء. كان نوار ينظر إليَّ بعدم ارتياح. مسكتُ يدها بهدوء ونحن ننزل بحذر شديد. مع كل خطوة كانت تعاتبني على تركي لها قبل التخرج من الكلية بسنة . كانت تعكس القصة الحقيقية . كنت أنظر إليها دون أن أنبس ببنت شفه. كانت تضحك وتخبرني بأنها كانت قد إرتكبت أكبر خطأ في حياتها عندما قبلت بمدرس الرياضة ولم تنتظرني لحين التخرج. عند باب سيارتها طلبت مني الذهاب معها إلى بيتها إلا أنني بررتُ لها سبب عدم إستطاعتي هذه المرة وسنلتقي في القاعة 36 بعد شهر. تفهمت وضعي . تحرك نوار بسيارته وكانت فوزية تنظر إلى الوراء وأنا أرفع يدي في الهواء وكانت دموعنا تغسل ساحة الوثبة وكل شوارع بغداد.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب