جلس في ردهة ألإنتظار مع بقية المراجعين ينتظر دوره للمثول أمام الطبيبة في ذلك المركز الصحي المشيَّد وسط المنطقة التي يسكنها منذ أن جاء الى هذا العالم. طبيبة في مقتبل العمر نُقِلت حديثاً الى مستوصف المنطقة . كانت قد وصلت سمعتها الجيدة الى كل بيتٍ من بيوت الحي. فتاة قادمة من مركز المدينة جاءت لقضاء مدة خدمتها في المركز الريفي لذلك الحي الجميل. الجميع يتحدث عنها وعن دقتها في العمل وعن مسحة الجمال التي وهبها الله سبحانه وتعالى لها. كانت حلم كل شاب في ذلك الحي. حينما تقول كلمة أو عبارة أو تعليقاً فأن الجميع يتناقله كالنار في الهشيم لدرجة أنها كانت تشعر ببعض ألإرهاق من كثرة المجاملات التي ينبغي عليها أن تقولها للجميع رجالاً ونساء . سمع بها – سيف- وسمع عنها أشياء كثيرة من نساء ورجال وشباب الحي . كانت حديث الساعة في كل مجلس من مجالس النساء والرجال من مختلف ألأعمار. قرر- سيف – الرجل الذي شارف على الخمسين – أن يذهب الى المستوصف بحجة الفحص العام كي يرى تلك المخلوقة الرائعة التي تحدث عنها الجميع. إرتدى أفخر ماعنده من ملابس كان يحتفظ بها ..لايرتديها إلا في المناسبات الخاصة والمهمة جداً. حينما أعلن شروق الشمس ظاهرته الجميلة على بيوت الحي كان سيف يسير في الطريق الترابي المؤدي الى ذلك المركز الصحي. طريقاً مرسوماً في ذاكرته منذ أن دخل المدرسة ألأبتدائية , شهد هذا الطريق أفراحاً وأحزاناً منذ أكثر من أربعين سنة. كان يسير مع بنت الجيران ذات الشرائط الحُمر وهي تحتمي به عند ذهابها الى مدرستها ألأبتدائية. كانت والدتها لاتثق بأي صبي من صبيان الحي وتجعله يرافقها كل صباح حيث يفترقان عند نهاية طريق القرية البعيدة. كان سيف يسترجع كل تلك الذكريات وهو ينتظر دوره في الدخول الى غرفة الفحص على أحرٍ من الجمر.
صاحت الطبية على إسمه . نهض مضطرباً بعض الشيء, لأول مرة في حياته يشعر بقليل من الإضطراب تجاه مهمه بسيطة لاتتطلب أي شيء من حالات الإرتباك – مع العلم أنه قضى نصف عمره مع النساء والفتيات أثناء الدراسة الجامعية والعمل المناط به في إحدى دوائر الدولة المهمة. في اللحظة التي وقعت نظراته على تلك المخلوقة ذات الرداء ألأبيض شعر أن مساً كهربائياً يجتاح كيانه ويكاد يحيله الى كومة من الرماد. إستقبلته الطبيبة الشابه بأبتسامة جميلة جعلت قلبه يُحلق في فضاء ليس له حدود. أشارت إليه بالأستلقاء على سرير طبي مريح وراحت تضع سماعتها على صدره وظهره وكل جزء من أجزاء جسده المرتعش. كانت تهمس في أذنه بين الحين وألآخر ” هل تشعر بألم هنا..أو هنا ..أو هنا؟” . كان صوتها كأنه موسيقى حالمه تنبعث من نسيم يهب من أقصى المسافات الممتدة لتلك القرية الجميلة. أكد لها عدة مرات أنه لا وجود لأي ألم في أي بقعة وضعت عليها سماعتها الطبية. طلبت منه أن ينزع قميصه لتتأكد من أن الفحص كان سليماً مئة في المئة. كلما وضعتها على جسده كان ينتفض كعصفور شارف على الهلاك. ” ..لماذا ترتعش؟ هل تشعر بألم هنا؟” كانت تردد هذه العبارة بين فترة وأخرى. هي لاتعلم أنها تعلن موته في تلك اللحظات القليلة. كان يشعر أنه كغريق في بحرٍ لجي ينتظر منها ساعة الخلاص. حاول أن يقول شيء إلا أن الكلمات كانت تتجمد في عروقهِ كلما حاول التفوه بكلمةٍ واحدة.
تراجعت الى الورء الى مكتبها ألأنيق في زاوية الغرفة وهي تطلب منه أن يرتدي قميصه. جلس أمامها على الكرسي المقابل لمكتبها وراحت توجه له أسئلة روتينية عديدة. ألأسم ..العنوان ..العمل ..التحصيل العلمي وأشياء أخرى وكأنها تحقق معه في جريمة كان قد إرتكبها قبل دخوله غرفة المعاينه. كانت تنظر في عينيهِ بثقةٍ مطلقة وهي تتحدث معه. كان لايسمع أي كلمه تقولها. شعر أنه تائه في محيطٍ تتقاذفه ألأمواج من كل حدبٍ وصوب. أراد أن يصرخ بأعلى صوته ليسمعه كل شخص في هذا العالم ” ..من أنتِ؟ أشعر أنني اذوب في نارٍ مستعره..أريد أن أصرخ أنكِ ملاك شفاف ..سلاماً أيتها الحمامة البيضاء..سابقى أناديكِ في أحلامي ويقظتي…أشعر أنني تائه حقاً في جحيم من أيامٍ لاتنتهي..” صرخت عليه أن ينتبه الى كلامها. عاد الى الواقع ألأليم ..واقع الحياة. ” ..إسمع أنت في صحة جيدة لايوجد لديك أي شيء …مع السلامة” . خرج من الباب الى الطريق المؤدي الى البستان صوب النهر الكبير. قرر أن يزورها بين يوم وآخر ويدعي أمراضاً كثيرة. سيبقى يتودد إليها مادامت هناك حياة على هذه ألأرض.