23 ديسمبر، 2024 10:00 ص

عند بزيبز … شعب ذل ولغز حل

عند بزيبز … شعب ذل ولغز حل

توالي المصائب على العراقيين منحهم مناعة لامتصاص الصدمات، فما كان بالأمس يمثل كارثة لا يمكن تخيلها، صار اليوم واقعا معاشا ينبغي التعامل معه، وهذا في الحقيقة سلاح ذو حدين، فهو من جهة يمنحنا فرصة للتعامل مع الاحداث الجسيمة بتعقل، ودون ان يأخذنا الذهول، ولكن من جهة اخرى يعكس نوعا من اللامبالاة التي بدأت تنمو في نفوسنا شيئا فشيئا مما يشي بحجم المأساة التي المّت بنا فلم نعد نحصي كثرة جراحنا النازفة، هذا الواقع يجسده بدقة قول المتنبي:

 

رماني الدهر بالارزاء حتى                  فــؤادي في غشـاء من نبـال

فكـنت اذا اصـابتـني سـهام                   تكسرت النصال على النصال

 

اخر تلك الارزاء ما لحق باهل الانبار بعد موجة نزوح جديدة، فقد أجبرت المعارك العنيفة التي جرت مؤخرا في مدينة الرمادي أهالي المدينة على النزوح صوب العاصمة بغداد او المناطق الصحراوية، واتجاهات اخرى، بحثا عن ملاذ امن يضيق كل يوم في بلد صار فيه الامن أنفس من الكبريت الاحمر.

 

ولكي نصف هذا الفصل الجديد من هذه المأساة بموضوعية، ينبغي ان نقف على السيناريو الذي سبقه والتداعيات التي تلته.

 

استعيدت مدينة تكريت من قبل القوات العراقية ومن معها من الحشد الشعبي وصحوات العشائر ودعم ايراني وطيران امريكي، في معركة لم نر فيها جثث لعناصر داعش ولا سلاح ولا الية، بعد ذلك بدأت الحملات المبكرة بالتوجه الى الانبار واستعادتها من تنظيم داعش، مع رغبة جامحة بنقل “الطحين” الى الرمادي والفلوجة، لكن تلك الرغبة اصدمت برفض عشائر الانبار وصحواتها دخول الحشد الشعبي بعد عمليات النهب والحرق التي طالت الجارة تكريت.

 

الحدث الاكثر مفاجأة هو الانهيار المفاجئ لقوات الجيش المتمركزة في الرمادي في اعادة لما حدث من قبل في الموصل، والادهى ان عناصر الجيش المنسحبين كانوا يصرحون بان الانسحاب جاء بناء على اوامر عليا ويدعون الاهالي للخروج الفوري.

 

احياء الرمادي بدأت تتهاوى واحدا تلو الاخر ولم يبق الا المجمع الحكومي، الامر الذي جعل اهالي الانبار يرددون وبشكل واضح “انها مؤامرة”، وهم بذلك يشيرون الى محاولة لتمهيد دخول قوات الحشد الشعبي، لان من الواضح ان هناك ارادة لتعظيم هذا الحشد ونسب جميع الانتصارات اليه وجعل الجيش الرسمي تابعا له، اضافة الى ان الازمة المالية تفرض على الجهات المشرفة عليه ايجاد مصادر لتمويله وهي بلا شك “الغنائم” التي يجنيها المقاتلون من المدن التي يستردونها.

 

الألم عند كرام الانبار تضاعف بعدما استقبلتهم اجراءات الحكومة عند جسر “بزيبز” وهو المنفذ الوحيد الذي ظل يربط الانبار ببغداد، الحكومة اشترطت وجود كفيل لادخال النازحين الى عاصمة بلادهم، بينما لا تزال الذاكرة مليئة بمشاهد الالاف من الايرانيين وهم يدخلون الحدود العراقية قبل أشهر فقط دون تاشيرة دخول، فهل من المعقول ان تفتح عاصمة الرشيد ذراعيها للاجنبي وتوصد الابواب في وجه ابناء البلد؟

 

ولماذا تلام كردستان على طلب الكفيل إذا كان المركز يفعل ما هو اشد وأنكى؟

 

وما الذي تبقى لكي يتحول العراق الى اقاليم؟

 

وإذا اعطينا الحق للحكومة باتخاذ الاحتياطات الامنية، فما ذنب النساء والاطفال والشيوخ، ولماذا لم يتم استثنائهم؟

 

وهل عجزت الدولة بكل مؤسساتها ان توجد حلا يحفظ الامن ويحفظ كرامة مواطنيها؟

 

الملفت ان عبارات التشفي التي صدرت من بعض الساسة ومؤيديهم ركزت على لوم اهل الانبار عن ترك ديارهم وعدم الدفاع عنها، على الرغم من الانباريين شابت رؤوسهم وهم يطالبون بتسليحهم دون ان تجد دعواهم اي صدى، فهل المطلوب منهم ان يواجهوا قوة داعش بالعصا ام بكف من الحصى؟

 

ثم لماذا لا يوجه اللوم الى “حماة الوطن” الذين لاذوا بالفرار اولا وتركوا الصحوات والشرطة المحلية يواجهون مصيرهم، وإذا سلم الناس من مطرقة داعش وسندان الميليشيات، فكيف لهم ان يسلموا من لظى القصف الذي يخطف ارواحهم يوميا؟

 

لكن – وللتاريخ – فإن ازمة النزوح الجديدة اظهرت مواقف تثير الاعتزاز، فما فعله اهالي بغداد من احتضان اخوتهم مما يثير الفخر، صحيح ان بعض المواقف لم تكن بالمستوى، لكن الصورة عامة اظهرت تعاونا وتكاتفا محمودا، فالمساجد والبيوت وبعض الدوائر فتحت ابوابها للمهجرين، كما ان بعض المواقف الرسمية كانت تستحق الاشادة.

 

“بزيبز ” ذلك المعبر المتهالك والجسر الاشهر اليوم، عنده صنعت ازمة جديدة كشفت جزء من المستور واجابت على الكثير من التساؤلات المتعلقة بازمة العراق التي يبدو ان هناك من يسيّرها وفقا لاجندة جهنمية، كما انها نقلت صورة لاوجاع شعب يجلد كل يوم بسياط قاسية لكي تذله، وهو يصرخ “استيقظوا يا امة أحد أحد”.