22 ديسمبر، 2024 6:14 م

عندما يموتُ إنسان أمام الكاميرات.. (صحافة العار) تَبصِقُ على أخلاقيات المهنة

عندما يموتُ إنسان أمام الكاميرات.. (صحافة العار) تَبصِقُ على أخلاقيات المهنة

في سنواتي الأخيرة في العراق، صرتُ أخجلُ عندما يقال عني بأني صحفي، ليس لأن كل من هَبَّ و دَبَّ من (المزعطة) جاءوا بهم من الشارع وجعلوهم مراسلين ومحررين ومنحتهم النقابات هويات عضويتها، وليس لأن الكثير جداً من خريجي الإعلام جهلة وبالكاد يجيدون القراءة والكتابة ومعظمهم عاجزون عن كتابة إنشاء لتلميذ في الصف الخامس الإبتدائي، وليس لأن الكثير من مدراء وأصحاب القنوات الفضائية والصحف يقدسون دور المرأة في عالم الصحافة إذا كانت تمتلك خلفية كبيرة في العمل الصحفي وتمتلك أهم عنصر في هذا المجال، وهو (الخبرة) ، ولكن لأن أخلاقيات مهنة الصحافة وطأها الطارئون على هذه المهنة بأحذيتهم، لا أمانة ولا حيادية.. ولا حتى رحمة! ، وكلامي يشمل (زعاطيط) الصحافة في إقليم كردستان أيضاً وليس فقط في بغداد والمحافظات .

فاليوم، توفي اللاجئ الإيراني الذي أحرق نفسه أمام مقر الأمم المتحدة في أربيل، أحرق نفسه أمام أنظار أربعة صحفيين وضعوا أمام فمه ميكرفوناتهم ووجهوا إليه كاميراتهم ليعلن بأنه سينتحر بإحراق نفسه، وفي يده اليمنى زجاجة البنزين وفي اليسرى قداحة.

كان يكفي فقط أن يقوم مراسل أو مصور بصفعه أو لكمه وإسقاط البنزين من يده وتكتيفه واحتجازه لبضع دقائق وإقناعه بالعودة الى رشده وانتظار مجيء الشرطة للقيام بواجبها، وإذا كان من بين هؤلاء الصحفيين أو الموجودين في المكان شخص في قلبه ذرة رحمة كان الأجدر به أن يضع في جيب هذا الشاب المسكين عشرة آلاف دينار أو أكثر لأنه من المؤكد لايوجد في جيبه ألف دينار، فقد وصلت حالة اليأس بداخله الى درجة التفكير الجديّ بالانتحار لأنه مفلس تماماً، وبعض الناس يفضلون الموت جوعاً (أو انتحاراً) على افتراش الرصيف والاستجداء من العابرين، فالتسول ليس سهلاً كما يظن البعض، فهو مرحلة أكثر قسوة من المتاجرة بالجسد .

ولنعد الى انعدام أخلاقيات مهنة الصحافة، فكما أسلفت، حديثي يشمل العراق وبضمنه الإقليم، مع فارق بسيط: فالصحفي غير المهني في وسط وجنوب العراق يكذب ويرتشي ويغدر ويسرب تسجيلات لشخصيات إئتمنته على أسرارها، أما في الإقليم، فهو مستعد للتفرج على إنسان يموت أمام عدسات كاميرته الوسخة ليحصل على سبق صحفي ولِيقال عنه بأنه صحفي ناجح، مهما كان ثمن النجاح، وخير نموذج على ذلك هو وقوف الصحفيين الأربعة بانتظار قيام اللاجئ الإيراني بإحراق نفسه، ياللعار !!! ما مقدار المكافأة التي ستحصلون عليها من مدرائكم؟ خمسون ألف دينار؟ مئة ألف دينار؟ هل يساوي هذا المبلغ التافه ثمن حياة إنسان؟ .

أنا هنا لا أحصرُ مشكلتنا بهذا الحادث المؤلم، فالمشكلة تخص واقع الصحافة في عموم العراق، صرنا نخجل عندما يسألوننا عن مهنتنا بعد أن انعدمت معايير اختيار الأشخاص المؤهلين ليصبحوا صحفيين، وانعدام المعايير السليمة في الأختيار أدى الى مجيء أجيال بَصَقَتْ على أخلاقيات الصحافة وحولتها الى سخافة .

واليوم، من سيقوم بغربلة المحسوبين على الصحافة ويستبعد الطارئين والطارئات على هذه المهنة؟ بالتأكيد لن ننتظر هذه الغربلة، لأن قمة الهرم والنخبة التي يفترض بها أن تغربلهم تحتاج الى غربلة .