تحولت المعركة السياسية بين الإخوان المسلمين في مصر ومنظومة الحكم التي أزاحت سلطتهم في الثلاثين من يونيو إلى حرب يصعب معرفة تداعياتها اللوجستية، مع إمكانية معرفة أبعادها السياسية والاستراتيجية. بعد أن تطور عنوانها إلى (الحرب على الإرهاب ممثلاً بالإخوان) وهو عنوان يختلف كلياً عما هو عليه في كل من العراق وسوريا بصورة خاصة، حيث إن عناوينه في هذين البلدين عائمة، وتخفي خلفها لائحة صراعات معقدة.
ففي سوريا انفتح حقل الإرهاب الجديد، وتوافدت عليه قوافل المتطرفين وانتعشت تنظيماته، بسبب خطأ تاريخي اقترفه نظام دمشق في تصعيده للمعركة السياسية ضد أبناء الشعب السوري، وتحويلها إلى معركة عسكرية، انتقلت فيها سوريا إلى ساحة حرب مفتوحة أبيحت فيها جميع المحظورات، بسبب الشعور الطاغي بتملّك السلطة والدفاع عنها، حتى لو كان الثمن عشرات الألوف من الضحايا وملايين المشردين ودمار شامل لمدن الحضارة.
وفتحت حدود سوريا أمام أفواج المتطرفين من جميع الأصناف والمذاهب، الذين يعتاشون على الفوضى ويتلذذون بمشاهدة بحيرات الدم والموت وأطلال المآذن والكنائس المهدمة، ومع إن أيام المحنة صعبة ومريرة، لكنها كشفت بسرعة عن أعمدة الإرهاب الحقيقية المتمثلة سواء بداعش وتحالفاتها المريبة داخلياً وإقليمياً، أو المليشيات الوافدة من لبنان والعراق التي تحارب خصومها على أساس مذهبي متطرف، مما يدلل على أن التسويق الإعلامي الرسمي بالحرب ضد الإرهاب له أغراض سياسية لخدمة استمرار حكم النظام.
أما في العراق فالمقصود بالحرب على الإرهاب هو تدعيم وشرعنة عمليات التصفيات والاعتقالات ذات البعدالطائفي التي بدأت منذ 2003 ولحد اليوم. ومنذ ذلك التاريخ اعتبر الذين قاوموا الاحتلال العسكري الأميركي إرهابيين. وأصبح الاستهداف سياسياً والمقصود به طائفة دون أخرى، بل إن الحرب الطائفية استفادت واستثمرت لعبة “القاعدة” في المنطقة والعراق لأغراض سياسية. وتعتقد سلطة بغداد بأن الطائفة العربية السنية هي البيئة الحاضنة للإرهاب، واستثمرت في تنفيذ حملتها على ما تسوّقه أميركا في حربها العالمية ضد الإرهاب لتحصل على الدعم المعنوي والمادي، إضافة إلى الدعم الشامل من إيران. ولهذه عجزت حكومة المالكي عن خوض معركة شعبية عراقية ضد الإرهاب مثلما يحصل في مصر الآن، ولم تتمكن من تحويل المعركة ضد الإرهاب إلى معركة وطنية عراقية، بل تحولت إلى معركة بين ممثلين لأحزاب طائفية حاكمة ضد مكوّن مطارد ومستهدف، متهم بالارهاب، وأداة للإقصاء وتصفية الخصوم السياسيين مثلما يحصل الآن في مناخ الحملات الانتخابية.
كما عجز الخطاب الرسمي الإعلامي عن بناء تعبئة إعلامية ونفسية حقيقية تتوفر فيها جميع إمكانيات القوة الوطنية ضد الإرهاب المعزول. بل على العكس، ظهرت العمليات الإرهابية التي استهدفت المواطنين الأبرياء، وكأنها عقوبات موجهة ضد الانحراف والفساد المالي والأخلاقي الحكومي، وكانت ممارسات الحكومة وأجهزتها تكرس هذا الوضع في محاولة لتحقيق مكاسب فئوية وانتخابية ضيقة في هذه المعركة، بل إن هناك شبهات كثيرة حول عمليات هروب المسجونين الخطرين لتنظيم القاعدة من سجون العراق.
أما في مصر فالمسألة تمتلك خصوصية سياسية وتاريخية، فالإخوان المسلمون، حركة سياسية تشكل العمود الفقري للإسلام السياسي في المنطقة، ودخول الحرب الساخنة معها يعني مواجهة حامية مع قلب ورأس الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وحسمها لا يعني حسم المعركة ضد الإرهاب الذي ظهر ونشط بسرعة مذهلة، واستنسخت فعالياته الدموية مما يحصل في العراق سواء بالمفخخات أو العبوات الناسفة، وقد تصل إلى العمليات الانتحارية. والحكومة المصرية الانتقالية التي تفتح هذه المعركة الكبيرة بعد تقنين إرهاب الإخوان، تستهدف القضاء اللوجستي على خلايا وتنظيمات الإخوان في مصر، ومع إن هذه المعركة شديدة التعقيد وقد تؤدي إلى احتمالات تأجيج النزعات الثأرية والدعوات الكيديةً. إلا أن الحكومة الانتقالية قد هيأت استحضاراتها التعبوية والإعلامية للمعركة ضد الإخوان المسلمين، ويبدو أنها لم تنطلق من فراغ. وقد أتيحت لي الفرصة لزيارة القاهرة هذا الأسبوع وتنقلت بين الأوساط الشعبية وسألت الكثير من المواطنين في مناطق شعبية كإمبابة وبولاق وأبو العلا إضافة إلى الدقي وحي المهندسين، ولاحظت إجماعاً على تأييد هذه الخطوة، وأن المصريين يلتفون حول الجيش والمؤسسة الأمنية ضد الإرهاب. ومن المهم الإشارة إلى أن جميع القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية الخاصة والحكومية المصرية دخلت في تعبئة إعلامية قوية ضد الإرهاب في مصر، مستضيفة كوادر سياسية وأمنية تتحدث عن مخاطر تلك الجماعات المسلحة، وتقدم النصائح الأمنية العلنية للمؤسسات الأمنية في كيفية التعامل مع “الإخوان” الذين لا يتوقع استسلامهم بسهولة، بل إن خطوة الحكومة بوضعهم تحت تصنيف الإرهاب ستزيد من ردود فعلهم، وهناك ملاحظة ملفتة للنظر، هي العناية الفائقة والتقدير العالي للكفاءات السياسية والأمنية والخبرات الوطنية وتقديمهم للجمهور والرأي العام بدون عقد. الجميع يتحدث عن الولاء لمصر وحب مصر والدفاع عن مصر، أي إن مادة التعبئة السياسية والإعلامية هي تعزيز الولاء الوطني وليس الطائفي والمذهبي والحزبي مثلما يحصل في العراق.
الإرهاب حالة غير ثابتة ومتلونة، وتتكيف حسب البيئة الاجتماعية والسياسية، ولهذا فدواؤها الحقيقي هو وجود حكومة وأجهزة تحب وطنها، وولاؤها ليس للحزب أو الطائفة.