“أحب الناس إلي من أهدى إلي عيوبي”، “الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوم عمر بن الخطاب بسيفه”، “لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير في إن لم أسمعها”، “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتهيأوا للعرض الأكبر”…
هذه بعض من الأقوال المأثورة التي ظل إسلاميو العدالة والتنمية في المغرب يستشهدون بها في أحاديثهم ومنتدياتهم واجتماعاتهم ومجالسهم التربوية بمناسبة أو من غير مناسبة لتشجيع بعضهم البعض على المواجهة وعلى النقد والنقد الذاتي والصدح بالحق.
وهي أقوال كان القصد من الاحتفاء بها في البدء أو هكذا كان هو خلق أجواء ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب، والظهور بمظهر الأخ السمح اللطيف الذي يهتم وينصت ويستوعب الآخر، حتى إذا انساق لهم الوافد الجديد واستسلم أخذوه على حين غرة ونهشوه واستغلوه أبشع استغلال.
والدليل على ذلك أنهم عندما وصلوا إلى سدة الحكم، وذاق “الإخوان” لذة الكرسي حتى سال اللعاب، تبخرت تلكم الأقوال وتبخر معها كل شيء، فانفرط العقد وتبعثرت لآلئه، وسقط القناع عن القناع فظهر كل شيء وانكشف، وتبين أن عقيدة النقد والنقد الذاتي لدى الإخوان مجرد كلام لا تكاد تجاوز حناجرهم.
وكان هؤلاء قبل وصولهم إلى الحكم يحاربون خصومهم ومنتقديهم ومناوئيهم من السياسيين الآخرين بأسلوب لاذع وقبيح يصل أحيانا إلى درجة التهديد، ومن ذلك الحرب التي شنوها على مدى أعوام كثيرة وبكل الطرق والوسائل، على مشروع الإصلاحات الخاصة بحقوق المرأة كما اقترحه آنذاك محمد سعيد السعدي، كاتب الدولة في شؤون الأسرة والتضامن، على عهد حكومة التناوب الأولى، ليعودوا بعد ذلك ويدوروا دورة كاملة ويقبلوا هذه المرة ليس فقط بالمقترحات ولكن بالإصلاحات جملة وتفصيلا.
يقول محمد سعيد السعدي، الذي كان قياديا سابقا بحزب التقدم والاشتراكية اليساري في حوار أجرته معه صحيفة الأسبوع الصحفي يوم 8 أبريل/نيسان 2014، “وقت مناقشة الخطة (يقصد الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية)، تم الهجوم علي، وتم تهديدي بشكل شخصي، لكنني لم أتحدث عن هذا الأمر، واتخذت السلطات الأمنية الإجراءات الضرورية لتأمين حياتي وحياة زوجتي وأبنائي،(…).
ويضيف في الحوار نفسه “في هذا السياق أعطي مثالا بسيطا، قبل أحداث 16 ماي 2003 ببضعة أيام، صدرت افتتاحية بجريدة “التجديد” الناطقة باسم حركة التوحيد والإصلاح، وكان رئيس تحريرها آنذاك هو محمد يتيم، (وزير الشغل والإدماج المهني السابق المثير للجدل في الحكومة الحالية والقيادي في حزب العدالة والتنمية)، الافتتاحية تتحدث عما أسمتهم “اللادينيون”، وتم ذكرهم بالأسماء، وهم في نظره سعيد السعدي (صاحب الخطة الجهنمية)، وعبدالعالي بنعمور رئيس جمعية “بدائل”، والمرحوم محمد العيادي، صاحب برنامج “مناظرات”، الذي كانت تبثه القناة الثانية”، مشددا على أنها “إشارة دالة على التكفير”.
كما نعتوه وفقا لما جاء في ذات الحوار، بـ”العميل الإمبريالي والملحد والشيوعي وأن زوجته يهودية” وما إلى ذلك من النعوث والأوصاف التي تمس بالعرض والشرف وتخرج من الملة وتضع صاحبها في إطار آخر غير إطار الإسلام.
هكذا يتعامل الإسلاميون وبكل خسة وغلظة وفجور مع خصومهم ومنتقديهم والمناوئين لهم، من الإطارات والفصائل السياسية الأخرى خاصة منهم ذوي النزعة اليسارية والليبرالية.
أما إذا كان منتقدهم من الفصائل الإسلامية الأخرى أو كان على الخصوص منهم فإن الأمر يعظم ويشتد ويكون أكثر خسة وغلظة، وأشير في هذا السياق إلى ما جرى للراحل الدكتور فريد الأنصاري، الذي كتب ذات يوم كتابا أسماه “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب.. انحراف استصنامي في الفكر والممارسة”، ينتقد فيه على الخصوص تنظيم التوحيد والإصلاح، الذي كان في وقت سابق عضوا في مكتبه التنفيذي، فثارت ثائرة رفاق الأمس وأغلظوا عليه ونعتوه بأقبح النعوت واتهموه بـ”خدمة أجاندة سياسية معادية لهم”، علما أنه أوضح ذلك في مقدمة الكتاب كما لو أنه رحمة الله عليه، كان على علم من أنهم سيهيئون له هذه التهمة وسيروجونها عبر كتائبهم الإلكترونية على أوسع نطاق.
يقول الراحل فريد الأنصاري في مقدمة الكتاب بخصوص هذه النقطة “ثم إننا قبل إصدار هذه الورقات قد استشرنا مع بعض أهل العلم والفضل باعتبار أنها قد تواجه تهما بالدعاية السياسية لصالح جهة ضد أخرى، لمن لهم غرض في خوض غمار السياسة، وشهد الله أن قصدنا من ذلك براء!”..
إن قرار حركة التوحيد والإصلاح في المغرب أن تلد حزبا سياسيا، هو “العدالة والتنمية”، هو النقطة الحاسمة التي أفاضت كأس الخلاف بين فريد الأنصاري وبين أتباع بنكيران، وجعلته ينهي علاقاته التنظيمية بالذراع الدعوية لحزب العدالة والتنمية ويتفرغ لأعماله ودراساته وأبحاثه العلمية.
وهو قرار لم يكن نابعا من فراغ أو يعوزه الدليل، وإنما كان قرارا مبنيا على أسس متينة وأدلة واضحة جلية، كما أن انتقاده لحركة التوحيد والإصلاح لم يكن انتقادا من أجل الانتقاد، بل من أجل البناء، ولذلك نجده في الفصل الرابع من كتابه “البيان الدعوي” يخصص حديثا عن بعض معالم المنهج الدعوي الصحيح القائم بداية على أهم ما في الدعوة الإسلامية، وأهم ما يجب أن يشتغل به الدعاة طوال مسيرتهم وهو التعريف بالله عز وجل، وبين أثناء انتقاده للذين يشتغلون بـ”الدعوة إلى الله” داخل هذه الحركة كيف أنهم يدعون إلى التنظيم ولا يدعون إلى الله.
يقول فريد الأنصاري في لقاء مناقشة حول كتابه “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب.. انحراف استصنامي في الفكر والممارسة” نظمه في وقت سابق، موقع المغني الإلكتروني “التعامل مع الحركة يجب أن يكون على خلفية الدين لا على خلفية الانتماء، بمعنى يجب أن نحاكم الحركة إلى الدين لا أن نحاكم الدين إلى الحركة، وأن نحاكم الأشخاص إلى الدين لا أن نحاكم الأشخاص إلى الحركة، فالأنصاري مصيب إذا وافق الحركة، ومخطئ ضال إذا ناقض الحركة، هل الحركة صارت مقياسا لرضى الله عز وجل وللدين الحق هذا هو الاستصنام عينه وهو الذي انتقدناه، ينبغي أن يكون الأنصاري مخطئا إذا ناقض كتاب الله وإذا أخطأ في تنزيل حقائق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يكون مصيبا إذا قارب ذلك واقترب منه هذا هو المنهج الحق”..
وقال خلال هذا اللقاء موجها كلامه إلى امرأة انتقدته نصرة لحركة التوحيد والإصلاح “أقول لك صراحة إن انتمائك لهذه الحركة لن يدخلك الجنة”، مبينا لها أن الذي يدخلها الجنة هو عملها الصالح وحده شريطة أن يكون هذا العمل خالصا لوجه الله، لا ما كان خدمة لفلان أو علان أو لهذه الحركة أو تلك”، كما توجه إلى عموم الإسلاميين ودعاهم إلى “التحرر من هذه الهياكل الوثنية التي سكنت عقلوهم وقلوبهم ووجدانهم، لقد حجبتهم عن الله، فالله الله في ديننا جميعا..”.
هذا غيض من فيض وما خفي كان أعظم، وصدق من شبه الذي ينتقد الناس، ويرفض أن ينتقده الآخرون، بذلك الذي يمتلك تفويضا ربانيا وقلما أحمرا يصحح به أخطاء العباد، ثم يقيم لهم بعد ذلك محاكم تفتيش ويوم حساب، متناسيا أنه هو أيضا بشر قد يصيب مرة ويخطئ مرات عديدة.
ي