كل رمضان تمد فضائياتنا يدها وتربت على أبصارنا ببرامج أبطالها سياسيون، وترغمنا لنسير خلف بطولاتهم وصولاتهم، نستلهم منها الدروس والعبر، ابتداء من الاعتناء بالزرع والضرع وليس انتهاء بالأحلام التي يحملها بين طيات صدره ليبحث عن وسيلة لتحقيقها، لكن يقف أبطال آخرون يشبهونه لسد مزمار قلبه كي يبتليه بالحرمان وبالعجز من ذلك، وهكذا كل عام، ولكن رحمة الله أوسع من كل شئ، منحتنا نعمة الريموت كونترول وسلطته الجبارة في نقلنا الى برامج أخرى في فضائيات عربية أجادت او أخفقت هي الأخرى في تبجيل شهر الغفران، ومن خلال متابعتي لبرنامج (عندما يتكلم الحرف)، ومقدمه ناجي الفتلاوي، المبثوث من قناة العراقية الفضائية، برنامجان في برنامج واحد، لان الفتلاوي برنامج متكامل لوحده، فهو انسكلوبيديا متورمة من المعلومات والرؤى الوردية والزرقاء وقد تقترب من اللون الأبيض او الأسود أحيانا، وتحتفي باللون الرمادي أحيانا أخرى، تنثر الدر الثمين بين طيات عقله، أينما وضع أصبعه يصيد أثمن الدرر، لا أجده يحتار او يبحث عن بديل لكلمة او حرف، بل أجد ان درره تتزاحم بين شفتيه كي ينطقها، ومنهما وكلاهما الفتلاوي والبرنامج، يستهويك متابعة الحروف، حينما يغسلان به قلب الفضاء العاصف بمسلسلات وبرامج مخصصة لشهر الرحمة والغفران، لكنها غابت عنها الفكرة والهدف والقيمة، ووقعت تحت طائلة الفخ السياسي والاستعمال السياسي، ففقدت بريقها وأخذت معها رحمة الشهر الكريم وهدوء النفس به، لان كل مشاهد يفقه ان السياسيين الذين تحتفي بهم برامج رمضان هم عاجزين، وغير قادرين على إمساك جدار مدرسة لترميمه، او دائرة يمكن ان يتلذذ ويعملق سيرته الذاتية من خلال إدارتها بفشل بامتياز دون خجل او وجل، سياسيون أكسبتهم الفضائيات نجومية مجانية غير جديرين بها، وهو أمر طبيعي لان الإعلام سياسي بطبيعته، والفضائيات إذا لم تفعل ذلك فإنها تبدو كأطفال لا يشبهون أهاليهم، فتظهر الشكوك حول شرعيتهم، لكن برنامج (عندما يتكلم الحرف) تدمن مغازلته كمتلقي تبحث عن ترنيم ونغمة تنعشك من صليب تزييف الوعي وتنقذك من غثيان الكلام المعجون بالفوضى، وتنأى بنفسك عن الحرمان، ليس لان الحرف دواء لداء الكلام بل لان الحرف احد خيوط السماء المستلة من بياض العقل، يسحبه الفتلاوي في خيوط حرير وينسجه في انسنوية حالم، يترقرق ماءها، كأنما دمع ازرق يحتال على شفتيك كي تنطقه، وتهديه أصابعك وراسك وبقايا صمتك في زمن الثرثرة والعويل والصراخ الذي إجادته السياسة وأتقنه الفضاء الإعلامي، كلاهما الفتلاوي وحروفه تنشر ألآس في رحيق درب منحه الفضاء رونقه بعيد عن جفاف الفكرة وضحالتها في شهر كريم احتالت عليه السياسة والمشادات الكلامية والتلاسن والتلاعن، وتبادل الاتهامات والقدرة على توزيع الخوف، والكفاءة في توزيع العقاب، وانتهاك حرمة شهر يفترض ان يضفي الرحمة بين جوانحه وأضلعه المبتلاة بالإيمان وقول الحق والعدل، وان يتشيع بالتسامح والتصالح والقول الحق وعدالة المواقف والأفعال والأقوال، لكن (برنامج عندما يتكلم الحرف) في نسخته الثانية للعام الثاني على التوالي لا يبحث عن مشاهد، ولا يركض وراء ضيف حرقت وجهه فضائيات تجيد كل شئ إلا المهنية والاحتراف في استضافة ضيوفها وتنمية قدرات مقدمي برامجها التي تفتقر الى ابسط شروط المهنة والعمل الإعلامي، شخصيا حين أتابع البرنامج أجدني امتلأ بمعلومة ذو بريق لا أجده في برامج ماتت منذ ولادتها، مثلما ماتت القنوات التي تبث منها، لا يهمك من هو الضيف بقدر ما يهمك ان تستنطق الحروف من خلاله، وهو لعمري أسلوب لتنشيط الذواكر وعصف أفكار غير متخيلة، كما يهمك ما الذي يخبئه الفتلاوي من أسئلة بريئة يغرسها دون ان يجعل ضيفه يلتفت يمين ويسار، لأنه يجيد فن إدارة الشاشة، كما يجيد فن طرح السؤال، وهو ما يفتقر إليه الأغلب الأعم من مقدمي البرامج في اغلب الفضائيات، هو يهندم ويهندس أسئلته، ويعقب عليها ويزيده بأسلوب اكثر هندمة وصنعة، بالرغم مما يؤاخذ عليه من طول السؤال، لأنه يحاول ان يكون اكثر تفسيرا للسؤال لضيفه، عندما يتكلم الحرف برنامج انطق إنسانية ضيوفه، لم يستطع برنامج آخر ان يستنطقها بروحية كما هي روحية الفتلاوي، لأنه لا يجعل ضيفه يقدم سيرته الذاتية، بل يستنطقه ليكتشف آراءه ويقف عليها، يناقشها مرة، ويعاندها بنعومة الحرف مرات، ويشاكسها بأناقة الحرف أخرى، ويضيف لها من عندياته النزر القليل او الكثير بحسب جود ضيفه، مجيبا عن أسئلته، وأكثر ضيوفه زملاء مهنة ونجوم فضائيات ومؤسسات إعلامية، أي استنطاق الفكرة لا الذكرى، برنامج منحه الحرف هيبة بعيد عن الإسفاف، والضيف يتولى الرد بجمال السؤال الموجه إليه، وهنا لا أريد ان أناقش هل كانت الإجابات مثالية أم مغلفة، صحيحة ودقيقة أم غير ذلك، ما يهمني هو إدارة الحوار ببراعة يحترم فيها المتلقي كيفما يكون مشربه ومسربه، وعفة الحرف وكرم اللغة بعيدا عن الرد(ح) غير المبرر للضيف وللمقدم.