23 ديسمبر، 2024 9:54 ص

عندما يتكلم الجندي المجهول – 8

عندما يتكلم الجندي المجهول – 8

الحلقة رقم – 8
حينما حل اليوم التاسع إزداد عدد الجنود بشكل ملفت للنظر وأزدحم المكان. شعرنا بعدم ألأرتياح وشعر الزملاء أن المكان اصبح يشكل بعض الخطورة فقد بدأ المسؤولين ألاكراد يزورون الجامع بين مدة وأخرى ويطلبون من الجنود أن يخبروهم عن تواجد أي شخص ينتمي الى ألأستخبارات أوأي جهه أمنية ومن يخفي نفسه ويتم إكتشافه فيما بعد فأنه يعرض نفسه للخطر. وراحوا يؤكدون لنا أنهم لايريدون أن يسببوا أي ضرر لأي شخص..ولكنهم يريدون بعض المعلومات فقط. قررنا ترك الجامع الكبير والبحث عن أي جامع صغير آخر كي نكون بعيدين عن النظارة والخطورة. وجدنا مسجداً صغيراً في منطقة منعزلة عن المدينة المزدحمة. كنا ثلاثة عشر جنديا في غرفة صغيرة واحدة. كانت أجسادنا تتلاصق عند النوم. إشترينا قليلاً من الرز والشاي . كنا نعطيه الى أحد البيوت القريبة من الجامع لتطبخه لنا صاحبة البيت . وبدأت بعض العوائل الكريمة تطبخ لنا رزنا. كنت غير مرتاح لتغيير المكان ولو أنه أهدأ قليلاً من الجامع الكبير. في صباح أحد ألأيام قال جعفر:” لماذا لانستقل إحدى السيارات ونذهب الى تركيا فقد نستطيع الخلاص من هناك؟”لم تنجح الفكرة فقد كان بعض الزملاء يرفض فكرة الذهاب الى أي بلد مجاور ومن ضمنهم أنا. وفي صباح اليوم التالي قال لي علي:” فلنذهب الى مدينة ..كلر..ومن هناك نعبر الجبال بأتجاه مدينة العظيم. ” كان علي يسكن تلك المدينة وأخبرني أنه إذا تمكنا من عبور الجبال الفاصلة بين مدينة كلر والعظيم فأننا نستطيع الخلاص بسهولة. وبالفعل ذهبنا..أنا وعلي وحسين بسيارة تاكسي على أمل الخلاص من الجحيم الملتهب في السليمانية. كان ألأكراد يمارسون الحرب ألأعلامية النفسية لتحطيم معنويات الجنود. كانوا يعلنون بالسماعات المثبته على السيارات من أن ألأكراد القوا القبض على ..علي حسن المجيد..ومرة أخرى من أنهم هاجموا موكب عزة الدوري وقتلوا كافة رجال حمايته.

حينما ترجلنا من سيارة ألأجرة في مدينة كلر كانت ألأوضاع صعبة جدا. الجنود يسيرون في الشوارع بلا هدف وحركة ألأكراد تحطم ألأعصاب. كل شيء مضطرب وهائج وكأن يوم القيامة قد أشرف على المجيء. سرنا في الشارع الطويل المؤدي الى خارج المدينة وبعد عدة كيلوا مترات إعترضنا كردي مسلح يشبه ألأنضباط بالعرف العسكري في جيش الحكومة المركزية. قال:

…” الى أين انتم ذاهبون؟”. أخبرهُ علي بأننا نروم الذهاب الى أهلنا بعد أن نعبر السلاسل الجبلية الممتدة بين العظيم ومنطقة كلر. نظر الينا بسخرية وهو يقول:

…” هل فقدتم عقولكم؟ لايمكن الذهاب من هناك ابداً. إنتشرت دبابات الجيش الحكومي وتوزع أفراد البيش مركه في الجهة المقابلة وستكون هناك معركة عنيفة هذه الليلة..وستكونون أنتم بين كماشتين. من ألأفضل أن تعودوا الى السليمانية أو تسلكوا هذا الطريق المؤدي الى – بمو –ومن هناك تذهبون الى إيران وتعيشون فيها بقية أعماركم”. أخبرناه بأننا نتحمل كافة العواقب. رفض بشده وكأنه كان قد فقد صبره. صوب سلاحه نحونا وهو يقول:” ليس أمامكم سوى طريقين ..أما السليمانية أو إيران”؟؟.

وبحزنٍ كبير وقلبٍ كسير عدتُ من حيثُ أتيت وقطعتُ طريقا طويلا نحو السليمانية. كنتُ محطما تماما وأنا استلقِ الى الوراء في المقعد ألخلفي للسيارة. كانت عيناي فقط هما اللتان تتابعان الطريق ألأخضر الممتد من كلر الى السليمانية. سهول جميلة وجبال ساحره..لكنني شعرتُ أن كل شيء أصبح امامي معتماً قاتماً وأن تلك الجبال ماهي إلا أسوار سجنٍ رهيب. لم أعد أتحسس جمال الطبيعه ولم أعد أشعر بسحر السهول الخضراء. كل ما كنتُ أشعر به هو أنني سجين .. مقيد..ضمن هذه المساحات الممتده على طول البصر. إذن – الحرية—ليست أن تكون مطلق اليدين والقدمين. ألأن تنطلق بي السيارة نحو السليمانية بأقصى سرعة ولكنني لاأملك أي شيء من الحرية. أنا سجين المكان الممتد على طول المسافات. أشعر أنني أكاد أختنق. هل صحيح أنني سجين في جزء جميل من بلدي ولايحق لي الخروج منه أبداً؟. كلما تقدمت السيارة نحو السليمانية كلما تقدمت روحي نحو ألأنفلات من حلقومي وهامت في سماء العذاب ألأبدي. إذن لن أستطيع رؤية بغداد بعد ألأن ولن أر نهر دجلة. إذن سوف انسلخ عن جذوري وابقى هنا وحيداً العق جراحي وأهيم وحيدا في نزيف ذكرياتي.

توقفت سيارة التاكسي بالقرب من الجامع الكبير في وسط السليمانية وترجلتُ منها وحيداً. تركني علي في كلر وقال بأنه سوف يجد طريقاً الى مدينة العظيم. وقد فشل في ذلك لأنني وجدته في أحد معسكرات ألأسر بعد خمسة شهور. لفتني شوارع المدينة المزدحمة وإزداد عذابي أضعافاً مضاعفة فلم أجد ايا ً من زملائي في الجامع الكبير ولا في أي منطقه أخرى. بحثتُ عنهم كالمجنون هنا وهناك وسألتُ عنهم كل شخص يقع في طريقي ولكن يبدو أنهم ضاعوا الى ألأبد.إسودت الدنيا في عيني وشعرتُ أنني سأفقد صوابي هذه المرة. دون وعي توجهتُ صوب أحد المحلات التجارية المتخصصه في بيع لعب ألأطفال ولاأدري لماذا فعلتُ ذلك. فجأه شعرت بتيار كهربائي يخترق روحي وأعصابي ويحيلني الى كومة من الخراب. شاهدتُ لعبه كان لها وقع الصاعقة على نفسيتي…دراجه نارية صغيرة يمتطيها راكبها..إنها نفس اللعبة التي كنت قد إشتريتها لولدي الصغير قبل عدة شهور حينما إنتقلنا الى البيت الجديد.طافت دموعي من شدة التاثر وعلمتُ أنني لن أراه بعد ألأن. عدتُ الى الجامع الكبير مسرعا وكأنني قد تلقيتُ صفعه مهلكه على رأسي. جلست عند حافة الجدار الداخلي للجامع أنقل نظراتي برعب وحزن نحو حركة الجنود . كان هناك شاباً يقف الى جواري يرتدي الملابس المدنية ينظر الي بين فترة وأخرى نظرات غريبة. دون مقدمات قلت له ” هل أنت كردي من محافظة السليمانية؟”. إبتسم بأرتباك قائلا” أنا إيراني.” صرختُ على الفور” إيراني؟ ..كيف وصلت الى هنا؟”. غادر الجامع مسرعا دون أن يلتفت الى الوراء. تضرعت الى الله أن يساعدني في هذا المأزق الذي أنا فيه. وأنا في غمرة تضرعي وتوسلاتي الى الله سمعتُ صوتاً يناديني. إلتفتُ ناحية الصوت وإذا بباسم يصرخ:

…” أين أنت يارجل لقد بحثنا عنك في كل مكان.غيرنا مكاننا ..سنذهب الى جامع أخر فقد بدأ الجامع الصغير يكتظ بالجنود. سنبحث عن مكان أقل خطورة. قال جعفر بأننا إذا لم نجدك خلال ساعة سنذهب بدونك”. قفز قلبي من الفرح حينما شاهدتُ باسم.إحتظنته ورحت أقبله بشغف وكأنني لم أره منذ مئات السنين. إندهش لتلك الحركة الغريبة التي قمت بها وقال” ماذا حل بك يارجل؟ هل أنت مريض؟ لماذا تقبلني هكذا؟” لم أجبه عن تساؤلاته وشاهد قطرات دمع قد تدحرجت من عينيّ. صمت قليلاً ثم سحبنس من يدي صوب الباب الخارجي للجامع دون أن ينبس ببنت شفه.

سرنا في السوق المزدحم الذي خيم عليه الظلام، وبدأت أفواج الماره تسرع كل الى مهجعه. تلقفتنا الطرق المتعرجة كأنها ثعابين ملتوية.إنحدرنا الى شارعٍ ضيق. قبل أن نصل قال باسم” إنهم ينتظرون هناك عند حافة ذلك المنعطف.لقد جاء بعض الجنود وأنضموا الينا، سوف نعرفك عليهم إنهم من مناطق مختلفة من بغداد. طلبوا من جعفر أن نقبل رفقتهم.إنهم شباب طيبوا القلب.” لم يعد يهمني من سيرافقنا..المهم أنني وجدتُ زملائي الذين عشتُ معهم تسعة أيام. قضيتُ الليلة التاسعة في إضطراب وعدم راحه. كانت هناك أصوات نارية كثيفه في سماء مدينة السليمانية ولاأدري سببها..هل يطلقون النار عشوائياً أم على أهداف محدده؟؟بدأنا ننام في غرفة صغيرة في أحد الجوامع الصغيرة وكنا احد عشر شخصاً. مكان ضيق جداً بالنسبة لعددنا لدرجة أنني كنتُ احسُّ بعظام جسد الزميل الذي ينام قربي.إنتهت تلك الليلة وسارت ألأمور إعتيادية باديء ألأمر إلا أن عاصفة جديدة لاحت في ألأفق لم نكن نتوقعها. كنا نسير في أحد الشوارع تائهين بلا هدف نحاول أن نقضي الوقت وإذا بشاحنات تقف عند حافة الجامع الكبير ويبدأ ألكراد المدججين بالسلاح يأمرون الجيش بالصعود الى تلك الشاحنات وراحت مكبرات الصوت تهدر في الجو المشحون تعلن ” على كافة الجنود التوجه الى الشاحنات لغرض نقهم الى مكان أمين ” وعاد الصوت يقول” من يختبيء من الجنود ونجده لاحقا سوف يكون عقابه شديدأ”. وراح ألأكراد يبحثون عن كل جندي في كافة ألأماكن التي يتواجدون فيها…الجوامع، المقاهي، الشوارع،الفنادق.

وتسلقتُ الشاحنه مع زملائي ونحن صامتين لانعرف ماذا سيكون مصيرنا وماهي الجهة التي نتوجه اليها. وإنطلقت السيارة الريم بسرعة..ومن بعيد ظهرت لنا هضاباً مرتفعة ومساحات خضراء وجبال تناطح السحاب. إنهم ينقلوننا عن طريق حلبجه القديمة. الحقيقة أن المنطقه جميلة جدا تشبه المناطق في الدول ألأشتراكية. شاهدتُ بعض ألأشياء التي لم أشاهدها في أي منطقه في العراق..آثار بيوت ودكاكين محكمة لم يبق منها سوى ألأطلال، وعدد لابأس به من الناس معظمهم من ألأكراد الذين كانوا يبيعون السلاح والعتاد بشكل علني. إفترش كل شخص ألأرض ووضع أمامه العتاد الذي يريد بيعه. توقفنا قليلا وأشتريتُ سكائر – بغداد – كانت ذات صناعة جيدة جدا. ركبنا السيارة مره أُخرى وسارت بنا في طريق طويل بين جبال كثيفه مزعجه. كانت مواضع الجيش العراقي تظهر في اجبال المترامية ألأطراف التي كانت تستخدم كحصون دفاعية أثناء حرب الثمانينات. كان الفصل قد إرتدى حلة الربيع الزاهية وكانت بعض الفتيات يتسلقن الجبال فرحات بعيد نوروز. أما أنا فقد كانت روحي منقبضه وراحت الدموع تنهمر من عينيّ . أنا ألان سائر في طريقي نحو الضياع والتيه.

وصلنا الحدود ألأيرانية حوالي الثالثة عصراً. عند الحدود كانت هناك عوئل عراقية كثيرة جداً تريد الدخول الى إيران ولاأدري لماذا تدفقت هذه ألأعداد الهائله من العوائل ؟ هل هربوا خوفا من صدام..أم أنهم خائفون من ” علي كيمياوي”؟. كانت مجموعة من الجيش ألأيراني تنتظر هناك وبعد التدقيق في هويات وأوراق كل جندي قال المسؤول ألأيراني” الجنود فقط هم الذين يُسمح لهم بالدخول.أما العوائل فالى وقت أخر”. ودخلت الحد الفاصل بين ألارض الطيبه وعالم الضياع. شعرتُ أن روحي تنفصل عن جسدي وأنا أنظر الى الوراء حيث ألأرض المعطاء التي وُلدتُ فيه وترعرت فيها وتزوجت فيها ودرستُ فيها. من بعيد حيث السراب المبهم شاهدتُ شبح والدتي يرفرف عند الخط الفاصل بين جذوري وضياعي يحلق فوق الجبال والسهول يحاول اللحاق بي ويمنعني من الدخول. شاهدت شبحها يلطم خده صارخ” إرجع ياولدي..ستضيع هناك”. كانت مناجاة ذلك الشبح الحد الفاصل بين الحياة والموت.صرخت بأعلى صوتي ولكن ظل الصوت حبيس القلب لم يخرج الى الفضاء الفسيح”: وداعا ياأمي الحبيبة. لن أراكِ بعد ألأن.” وماتت أمي بعد شهرين من ضياعي.

وضعونا في خيمة عند الحدود. جلسنا على ألأرض كل واحد ينظر الى ألأخر لايعرف ماذا يقول؟. جاءت سيارة كبيرة تعود لأحد التجار ألأيرانيين تروم الذهاب الى السليمانية وهي محمله بالتفاح. فجأة صعد الجندي ألأيراني الى الشاحنة وأخذ صندوقيين من التفاح وراح يوزع تفاحه لكل واحد منا ثم أخذ الباقي الى خيمته. كانت تلك التفاحه الشيء الوحيد الذي تناولته طيلة ذلك اليوم. بقينا ساعة واحدة بعدها جاءت شاحنه أخرى وأمرونا بالصعود . كنا متلاصقين الى جانب بعضنا البعض ورافقنا حراس إيرانيين مدججين بالسلاح. كانوا ينظرون الى ملابسنا العسكرية بأعجاب على الرغم من انها كانت متسخه وغير مرتبه. كانت ملابس الجنود ألأيرانيين متسخة وغير مرتبه أبدا.عندما إنطلقت السيارة بدأ الحرس ألأيراني يأخذ النطاق العسكري من كل جندي عراقي لأنه معجب به جدا. كانت المسافه بين ” طويله” – وتلفظ – ” إطْويله – وهي المنطقه الحدودية الفاصلة بين الخط ألأخير لحدودنا والمنطقه ألأخرى التي كانت مقرا للقوات ألأيرانية حوالي ثلاث ساعات بالسيارة. الطريق من الحدود الى هذه المنطقه مخيف جدا جدا لم يسبق أن شاهدت مثله أبداً. جبال شاهقه جدا وطريق ضيق لسيارة واحده وهناك وادٍ عميق جدا أخشى أن أنظر اليه من الفتحات الصغيرة للسيارة. عند الغروب وصلنا الى المنطقه. كانت هناك غرفتين صغيرتين ملاصقتين لجبل شاهق. طلبوا منا الترجل من السيارة والجلوس أمام تلك الغرفتين. وجدنا جنوداً عرقيين كانوا قد وصلوا قبلنا. بأرتباك وتعب وقلق تعرفنا على بعضنا البعض.

غابت الشمس ولف المنطقه الجبلية ظلام يحطم ألأعصاب وبين فترة وأخرى نسمع صوتا لمحرك إحدى السيارات ألأيرانية على الطريق الضيق الملاصق لذلك الجبل المواجه لنا..وخرير المياه المتدفقه في الوادي تحطم أجنحة الصمت وتضيف رعبا أخر للأضطراب الذي شمل كل ألأشخاص الجالسين على ألأرض مرهقين جائعين. بعد ساعة جاء الجندي ألأيراني وصرخ بأعلى صوته” بلانشو” أي إنهضوا وطلب منا ان نقف في صفٍ واحد. كان يتكلم بالفارسيه ولكن أحداً لم يفهم ماكان يريده. في النهاية عرفنا أنه يريد أن يوزع لنا العشاء. جاء جندي أيراني أخر يحمل مجموعة من أرغفة الخبز وأخر يحمل صفيحة معدنية من الحلاوة الشكرية كما نطلق عليها وهم يطلقون عليها حلاوة سازي. راح الجندي ألأول يوزع رغيفا من الخبز الخفيف جدا ويطلب منا التوجه الى الجندي ألأخر حيث يقوم بوضع قطعه صغيرة من تلك الحلاوة على رغيف الخبز ويقول لكل واحد يستلم ذلك:” إذهب هناك وأجلس على ألأرض وتناول عشاؤك”. نظرتُ الى قطعة الخبز وقطعة الحلاوة الصغيرة وقلتُ لنفسي:

…” ياالهي ..هل أن هذا كل ما سأتناوله الليلة؟ أحتاج الى خمسة أرغفه من هذا النوع وعشرة قطع من هذه الحلاوة كي أشبع.”. ظل كل واحد منا ينظر الى الجالس قربه ويهز رأسه لايصدق مايرى. قال أحدهم:” سأتناول النصف وأترك النصف ألاخر للسحور، يجب أن أصوم. من يدري قد لايجلبوا لنا سحور.”.وبالفعل لم يفعلوا ذلك وكأنهم لايعرفون أننا في شهر رمضان. زحف الليل البارد نحونا ووزعوا لكل واحد منا بطانية ونمنا في العراء. لم أستطع النوم لحظة واحدة فقد كانت المنطقه جبلية شديدة البرودة. أنقضى الليل وجاءت معاناة أخرى عند الصباح. تحركت ألأجساد الملقاة على ألأرض بلا رحمة. حاول كل شخص ان” يُدبر” نفسه كما يقولون. نظر اليّ جعفر بعينين مرهقتين من شدة السهر والبرد قائلاً:

…” ياالهي لقد نفذت سكائري ..ماذا أفعل؟ أستطيع ألأستغناء عن ألأكل والشرب ولكن لاأستطيع ألأستغناء عن السيكارة اللعينة”. دون وعي أدخلتُ يدي في جيب قمصلتي العسكرية وأعطيتهُ علبة سكائر بغداد كاملة. نظر اليّ بذهول وهو يقول:” ياالهي من أين لك هذا؟ لماذا لم تقل لي بأنك تملك سكائر؟”. إبتسمت اليه بشرود وقلت له” دخن ولا تسأل..إنها هدية لك”. راحت أصابعه تخرج عودا من الثقاب بأرتجاف ملحوظ وفي لمح البصر راح الدخان يتصاعد الى الفضاء متلاشيا في سماء الغربة والوحشة والترقب وألأنتظار. بعد أن تسربت رائحة الدخان في عروقه وأستعاد رباطة جأشهِ وسيطر عليه هدوء نسبي قال بتحسر:

…” كم أتمنى أن أتناول قدحاً من الشاي ألأن؟” رأسي يدور وعلاجه الوحيد قدح من الشاي”. نظرتُ الى وجهه بهدوء وقلتُ:

…” هل تستطيع أن تجد لنا علبة معدنية صغيرة؟ سأوفر لك قدح الشاي الذي تتمناه”. قال بعدم تصديق وكأنه أحس بأنني أمزح معه : …” ولكن كيف ستصنع الشاي؟.حسنا سوف أذهب للبحث عن علبة معدنية قديمة بين تلك الصخور”. بعد نصف ساعة عاد والفرحة قد سيطرت عليه نوعا ما.قال بتهكم:” خذ ياأستاذ هذه ثلاث علب فارغة ..ماذا تريد أيضا؟” قت له مبتسما:” إذهب وأغسلها جيدا وأجلب لنا ماءأً كافيا من ذلك الوادي وأن شاء الله سوف تحتسي قدحا من الشاي اللذيذ”. ذهب دون أن ينبس ببنت شفه كأنه تلميذ يمتثل لأوامر معلمه.

يتبع ……..