الحلقة رقم – 22 –
كنت أحترمه جدا لأنه أهل للأحترام ولكن كيف أساعده دون أن أجرح مشاعره ؟
وجاءت فكرة مساعدته بطريقةٍ عفوية من جانبي. قلتُ على الفور : ” إسمع ياصديقي….الطريقة التي تتبعها غريبة وخاطئة . إذا إشتركت َ في المسابقة فأنك لن تحصد أي شيء سوى السراب وألاندحار في بداية الجولةِ الأولى. سيكون موقفك أمام اللجنة المحّكمة صعب ومضحك ، أما أن تحفظ بطريقة صحيحة وأما أن تترك هذه المسابقة كي لا يضيع جهدك هباءاً منثورا ” . شعرتُ أن ملامح وجهه قد تغيرت. أحس أنني أسخر منه فقط أو لا أريده أن يشترك في المسابقة. نظر إليّ بتحدي وهو يقول ” سوف أشترك وأفوز وهذه هي الطريقة الوحيدة التي أعرفها في الحفظ ” .
نظر إلي وهو يقول ” إستاذ ، لماذا لاتشترك معي في المسابقة ؟ سأستمع إليك حينما تحفظ وتساعدني في تطوير عملية الحفظ التي أقوم بها. سأعطيك نصف الدفتر إذا فزتُ في المسابقة “. كانت هناك علامات ترجي في عينيهِ . قلت ُ له [ حسناً سأشترك معك في المسابقة وأساعدك في الحفظ ولكن ينبغي عليك أن تتبع كل التعليمات التي أوجهها لك . يجب أن تنسى الطريقة التي حفظتَ بها ونبدأ من جديد أي من الصفر .] . حينما وافق على شروطي بدأنا في اليوم التالي نحفظ سطراً ثم يليه الآخر . كان يسبب لي إرهاقاً كبيراً في جعلهِ يحفظ بعض الكلمات الصعبة. في غضون فترة قياسية مناسبة أصبح يلفظ الكلمات والعبارات مثلي تماماً. شعرتُ بسعادة غامرة لأنني أحسستُ أنني أزرع نبتة وبدأت تثمر بجدارة. قبل وقت المسابقة بثلاث ساعات علمنا أن الأخ [ أياد حويجة ] سوف يشترك في المسابقة وهذا يعني أنه سيحطم كل المتسابقين الذي يشتركون معه . هو يمتلك صوتاً إلقائياً رائعاً إضافة إلى أن طريقته في التلفظ عالية جداً. لفني الحزن في البداية لأنني إعتبرتُ أن إشتراكي مع هذا الفتى ـ عمر ـ معناه الفشل أمام هذا المتسابق العنيد ـ المحترف ـ. كان عمر وأياد يسكنان في منطقة واحدة وتربطهما علاقة صداقة قوية جداً . إنهما يأكلان مع بعض منذ اليوم الأول الذي وقعت فيه عيناي عليهما. لم يتخاصما يوماً واحدا أو على الأقل هذا ما كنتُ أراه.
جاء أياد ووقف معنا وهو يقول بتحدي ” سوف أنتزع منكما القلم والدفتر ، لديّ طريقة خاصة للفوز بالجائزة.” قلتُ له مازحاً [ هل يمكن أن تخبرني بهذه الطريقة سأكون لك شاكرا ] . نظر اليّ مبتسماً وهو يقول ” حسناً سأخبرك كيف تربح الجائزة” . دون وعي صرخ عمر ” لا. لا. لا تخبرهُ. ” نظرتُ إلى عمر بطريقة جنونية. لم أصدق ما أسمع منه. شعرتُ أن تياراً كهربائياً يمزق روحي ويشل حركة كل عضو من أعضاء جسدي. إذن مهما كانت العلاقة بين إنسان وآخر في مكان كهذا فأنها لاشيء أمام الأنتماء إلى نفس القبيلة. لم يُعلمه أياد حرفاً واحداً من اللغة العربية ولا في اللغة الأنكليزية ولا في طريقة الحفظ . لقد قضيتُ معه عشرات الساعات أُعدّل لسانهِ وأغدق عليهِ بالشروحات المختلفة للعبارات الصعبة …تحت المطر..تحت الشمس..في البرد القارس ، ولكنه تناسى كل ذلك في لمح البصر وتعصّب للصديق الذي تربطه معه صلة الأرض والقرية. تأثرت في قرارة نفسي وقلت ُ له بأنه سيدفع الثمن لاحقاً. أضفتُ قائلاً [ أنت أناني حقاً وناكر للجميل. ] حاول أن يعتذر من كل قلبه وبأنه كان يمزح معي. قلتُ له [ لايهم … بقي على المسابقة ثلاث ساعات وأنت الآن جاهز لها ، سأذهب إلى سريري وسنلتقي عند المساء” .
رافقني إلى سريري وهو يكرر إعتذاره. كان رئيس اللجنة رجل رائع يُطلق عيه أبو فيروز مع العلم ليس لديه أطفال ولكن عشقه المطلق لأغاني فيروز جعله يُسمي نفسه ب ” أبو فيروز” رجل شفاف مثقف لايؤذي نمله إذا وقفت في طريقه…يعشق الأدب والكتابات النابعة من قلبٍ لايهوى إلا العشق والجمال متمكن من اللغة العربية بطريقة يتفوق بها على أساتذة اللغة العربية في الجامعات العراقية . يشاركه في التحكيم ثلاثة من حفظة القرآن الكريم. كان قد سمع الحوار الذي دار بيني وبين صديقي ناكر الجميل عند حافة السرير. بعد أن أصبحتُ وحيداً قرب فراشي خاطبني ” أبا فروز” بصوته الدافيء قائلاً ” لاتهتم ياصديقي …سأعلمك طريقة للفوز” . نظرتُ إليه ببعض الشك والريبة وأعتقدتُ أنه يسخر مني. ” وماذا تستطيع أن تقدم لي؟ لقد خذلني صديقي الذي قضيت معه ساعات لاتحصى …أما أنت فرئيس اللجنة …ورئيس اللجنة أقسى من الصخر في التحكيم. لايهمني بعد الآن أي فوز…فالعلاقات الأنسانية ليس لها قيمة في هذا المكان..الكل يبحث عن هدف ٍ قد ينتشله من حالةِ ضعفٍ أو حاجةٍ إلى شيء ما. لقد صنعتُ شيئأً يعادل آلاف الدفاتر والأقلام التي يحلم بواحدةٍ منها صديقي عمر…لقد صنعت إنسانا لن يتمكن من نسيانه مهما تقدم الزمن وهذا أهم شيء بالنسبة لي ” .
[ ملاحظه هامة جداً قبل الأستدامة أو المضي في سرد الأحداث….حينما وصلتُ إلى هذا الجزء من الحكاية الرتيبة تذكرتُ وقلتُ مع نفسي سأتصل به الآن عن طريق هاتفي النقال. لقد حصلتُ على رقم هاتفه من شخص لم يكن في الحسبان قبل أيام…وبأنامل مرتجفه بدأت أكتب الأرقام…لم يرد على الدقات المتتالية..كررتُ الطلب مرة أخرى. من بعيد كان هناك صوتا مرهقاً يقول ـ ألو..ـ دون أن أذكرله أسمي قلتُ ” كيف حالك ياصديقي ؟ هل تتذكرني؟ ؟ ] . صرخ بصوتٍ كمن أصابه مس من الجنون ” أستاذي العزيز ، كيف حالك”. لم أره منذ اللحظةِ التي فارقنا بها بعضنا البعض عند الحدود . راح يضحك ويردد ” هل تتذكر …..كودوا سوف لن يأتي أبداً ….كودوا هو الموت “. طبعاً قالها باللغة الأنكليزية . كنت قد شرحت لهُ مسرحية ” في إنتظار كودوا التي درستها في الصف الرابع كلية . ” لو لم أشرحها له قبل أكثر من خمسة عشر عاماً فأنه لن يعرف هذا ألأسم المدعو ” كودوا” حى بعد مئات السنين. عرفتُ منه أنه الآن يتاجر بالسيارت وأصبح لديه عدد كبير من الأولاد. قبل أن ننهي الكلام قال بالحرف الواحد ” أنت الوحيد الذي لايفارق ذهني…أنت الوحيد الذي لا أستطيع أن أنساه ” . كانت سعادتي بكلامه توازي كل كنوز الأرض . لقد تركتُ بصمة بسيطة في هذا العالم وحققت الحكمة أو العبارة التي قرأتها يوماً ما في مكانٍ ما لا أتذكره وهي تقول ” يجب أن تترك بصماتك على العالم قبل أن ترحل عن هذا العالم” . وبالتأكيد يجب أن تكون البصمات إيجابية وليست بصمات مرعبة كما تركها بعض الأشخاص في مكانٍ ما وفترة زمنية كانت بالنسبةِ لهم تشكل كل مراكز القوة والأستحواذ على أي شيء يحلمون به. إنتهت الملاحظة الهامة فلنعد الآن إلى حكايتنا القديمة .
قلتُ للأخ ” أبو فيروز ” واليأس قد أخذ مني كل مأخذ [ صوت أياد جميل جداً وطريقته ُ في الألقاء تُحرك المشاعر والقلوب ، أين أنا من طريقته الساحرة ؟ ” أجابني بهدوء تام ” صحيح أنه خطر عليك وعلى كافة المتسابقين ولكنك تمتلك ميزات قد يفتقر إليها. حاول أن تقوم بحركات تمثيلية أثناء تلاوة النص وكأنك تقوم بأداء دور مسرحي مهم جداً….لا تخطأ في التلفظ وحاول أن تتكلم بثقة عالية جداً. ” كانت كلماتهِ قد جلبت إلى روحي نوعاً من الثقة بالنفس والأرتياح الكبير وشعرتُ أن القلق الداخلي قد بدأ يتلاشى رويداً رويداً . وجاءت لحظة الترقب والتحسب والقلق والخوف والتسابق. تجمع كل الأسرى وجلسوا على الأرض يفترشون بطانياتهم على الأرض الشديدة البرودة. جلست اللجنة في مكانها المخصص ـ تتكون اللجنة من أبو فيروز المتمكن جداً من اللغة العربية وأبو سيف حافظ كل أجزاء القرآن وأياد العاني حافظ كل أجزاء القرآن ونصف نهج البلاغة ـ . جلس المتسابقون في الصف الأول على الأرض. وبعد تواتر أسماء المتسابقين جاء دور أياد حويجة . كنتُ منتبهاً جداً وهيأت ورقة وقلم كي اسجل أي خطأ قد يقع فيه. لم يخطأ بحرفٍ واحد ولا كلمة وتلا الخطبة بطريقةٍ إعتيادية وكأنه يقرأ خطاباً أمام الجماهير. لم يُحرك أي جزء من أجزاء جسده . كان متصلباً. ونادت اللجنة على إسمي . كان قلبي يكاد يطفر من بين ضلوعي لشدة توتري وقلقي. لم أطمح بالتفوق عليه فهذا محال….كنتُ أريد أن أصل الى مستواه فقط. وصمت الجميع. إنقسم الناس إلى فريقين فريقٌ يشجع أياد وهم كثيرون وفريق يشجعني وهم قليلون. قبل أن أبدأ في قراءة الخطبة نظرتُ إلى عمر كأنني أقول” أنت تشجع من؟ معروفٌ ذلك للجميع. أنت مع إبن منطقتك…أما أنا فسأحارب وحيداً فقد خذلني من قدمتُ له كل شيء على مدى أيام. ” وتحفز الأمل في قلبي حينما نظرتُ إلى أبو فيروز وكأنني أستمد منه القوة لحظة الأحتظار. إبتسم لي أبو فيروز وكانت إبتسامته لي عوناً لايجاريه عون في ذلك الأتون الذي كنت أرزح تحت كاهلهِ. شعرتُ أنه قدم لي سيفاُ أقاتل فيه في اللحظةِ الأخيرة من صراع الموت مع الحياة. وأرتجت القاعة ِ لصوتي . لم أرَ أحداً في تلك اللحظةِ أمامي . كان الجميع بالنسبةِ لي مجرد أشباح في ليلٍ حالك السواد. بدأتُ أُحرك يدي اليمنى بقوة كأنني أضرب عدواً سابق الريح من الجهةِ الأخرى كي ينقض عليّ أحسستُ أنني قد نلتُ منه وسقط صريعاً أمامي مخضباً بدمائه. وتبادر إلى ذهني في تلك اللحظة ألآية الكريمة ” إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً” .
وأستمرت المعركة وقبل أن أتلفظ ألكلمات الأخيرة من تلك الخطبة البلاغية العظيمة سرقت النظر إلى رئيس اللجنة . كان مشدوداً إليّ وكأنه كان مستعداً لتقديم العون في أي لحظةٍ ينشدها فارس مرهق في ساحات الوغى والدماء المتفجرة في كل مكان. شاهدتُ بريقاً عجيباً في عينيهِ المرهقتين وإبتسامة طفيفة قد وجدت لها طريقاً إلى شفتيه اليابستين من شدة الجوع والحرمان من كل شيء. وجاء دور عمر وراح يقرأ الخطبة. ذُهِلَ الجميع لطريقته الجميلة في إلقاء الخطبة لدرجة أنني سمعتُ من بعيد أحدهم يعلق قائلاً ” هل من المعقول أن هذا الفتى يتحدث بهذه الطريقة المتقنة ؟” والحق يُقال لقد كنت أنا مندهشاً جداً لدرجة أنني تصورتُ أنا الذي يقرأ وليس هو. كان عمر يمتلك ذكاءاً جيداً .خرجت دمعة صغيرة من عينيّ فرحتُ وحزنت في نفس الوقت. شعرتُ أن جهودي معه لم تذهب سدى. أحسستُ أن النبته الصغيرة التي زرعتها وسقيتها مدة عشرون يوماً بمعدل ثمانِ ساعات يومياً قد أزهرت فوق سطح الأرض. وختم عمر كلامه وصفقوا له طويلاً. شعرتُ أنهم يصفقون لي وحدي. وجاءت لحظة الترقب . وقرأ رئيس اللجنة أسماء الفائزين وصاح الفائز الأول ….وكان إسمي والفائز الثاني أياد والفائز الثالث عمر. لم أصدق ما أسمع. شعرتُ أن الأرض تميدُ بي في كل الأتجاهات. أحسستُ أن سجني الرهيب قد تهشمت قضبانه وتلاشت في الفضاء. أحسستُ أنني أهيمُ في البراري والسهول أرقص طرباً على أنغام الحرية والنجاح.سالت دموعي بيد أنني مسحتها على عجل كي لايكتشفوا عجزي. وتقدمنا نحو اللجنة كي نستلم الهدية التي لطالما حلم بها عمر. قدموا للفائز الأول والثاني إربعة مغلفات صغيرة من البسكويت الرخيص وثلاثة للفائز الثالث. طار حلم عمر في الحصول على دفتر وقلم. بعد المسابقة جاء عمر يركض نحوي وهو يقول ” أستاذي العزيز أنت رجل عظيم ولا أدري ماذا أقدم لك في المستقبل حينما نعود إلى أرض الوطن….لن أنساك أبداً” .
إزدادت صداقتي معه لدرجة أنني إنقطعتُ عن السير مع أي شخص سوى سطام ـ الذي جاء الحديث عنه سابقاً ـ. بدأ سطام يغار قليلاً من عمر حينما يراني أجلس معه ساعات طويلة أحدثه عن قصص كثيرة باللغة الأنكليزية. كان سطام يقول له ” ماهذه الجلسات الطويلة مع الأستاذ؟ أنت تضيع وقتك سدى ، يجب أن تقرأ وتكتب بدلاً من الجلوس والخوض في مواضيع لافائدة منها” . كان عمر يضحك ويقول له بسعادة ملحوظة ” أنا حر في تضييع وقتي مع الأستاذ. ومن قال لك أني أهدر وقتي سدى؟ كل جلسة مع الأستاذ هي بمثابة دروس ومحاضرات لاتنتهي” . كان هناك شخصان يتكلمان ألأنكليزية مثلي ، ألاول شاب من مدينة الموصل كان قد تخرج من كلية اللغات في الموصل وخدم برتية ملازم مجند. شخص يعجز الأنسان عن وصف أخلاقه العالية وتربيتة تدل على عائلة لامثيل لها في إخراج إنسان على شاكلته. والشخص الآخر هو أبو فيروز لذي مر الحديث عنه.
في يومٍ من الأيام طلب منه سطام أن يُدرسهُ جزءاً من المعلومات التي يملكها عن مادة اللغة الأنكليزية إلا أن ” ماهر ” قال له ” لماذا لاتنتبه لدينك؟ لماذا لاتقرأ القرآن بدلاً من الأهتمام بهذه اللغة اللعينة ؟” جائني سطام أحمر الوجه خجلاً وقال لي ” ماذا يتصور نفسه …هل هو مصلح ديني ؟ لماذا يحدثني هكذا؟ يتصور أنه الرجل الوحيد الذي يعرف الله. لن أتحدث معه حول هذا الموضوع أبداً ” . الحق يُقال أن ماهر من الشباب النادرين في هذا العالم المليء بالحقد والغش والخداع في جوانب متعددة. ماهر مؤدب جداً ويخاف الله إلى أبعد الحدود ولا أعتقد أنه تخاصم مع أي شخص طيلة تواجده معنا. لقد حدثت له حادثه جعلته يفقد الثق بكل شيء وخصوصاً فيما يتعلق بالدراسة. كان ضابطاً مجنداً وقدم أوراقه لدراسة الماجستير وحينما ذهب إلى الجامعة وجد أن الدراسة قد مضى عليها عدة شهور, حقد عليهم وعلى تأخرهم في إرسال إشعار له كي يأتي للدراسة. ترك دراسة الماجستير وعاد إلى الجيش . قال له أبو فيروز ” أنت مطالب أمام الله بتعليم هذه اللغة إلى أي شخص يسألك لأن زكاة العلم نشره. ..أنت مسؤول عن هذا والأمر متروك لك “. بدأ يعطي دروساً بسيطة لبعض الطلبة ولكنه لم يستمر طويلاً في ذلك.
عزيزي القاريء الكريم ، كما أسلفتُ سابقاً إن الحديث عن ألأزمنة الصعبة التي يعيشها ألأسير مع زملائهِ في قبور ألأحياء لا تعد ولا تحصى ولكن سأذكر حادثة من هنا وأخرى من هناك كلما جاءت إلى ذهني المرهق. من المتعارف عليهِ هناك أن كل شخص يأكل مع شخص آخر يتشاركان في السراء والضراء في كل شيء ما عداي ، أنا لاأطيق ألأقتراب من أي أحد في مسألة ألأكل لعدة أسباب ذكرتُ بعضاً منها سابقاً ولكن لاباس في التكرار السريع منها التقيّد مع من تأكل والمجاملات المرهقة للأعصاب وغير ذلك. ولكن مع كل ذلك وجدتُ نفسي آكل وأشرب مع شخص يحمل صفات جيدة وأخرى غير ذلك. إستمريتُ معهُ فترة غير قصيرة تخللتها أحداث متنوعة سأحاول أن أُلقي الضوء عليها لأنهُ كان دائماً يقول لي بأنني سوف أنساه حينما نعود إلى أرض الوطن وبأنه سوف يبقى مجرد ذكرى في تجاويف عقلي اللاواعي. أكدتُ له بأنني سأبقى أتذكرهُ مادمتُ على قيد الحياة. هو ( أبو هوبي). شخص ورع يخاف الله جميل الصورة متوسط القامة كان قد تخرج من الكلية العسكرية . حفظ القرآن كله . كان سريري قريباً منه – الطابق الثالث – ودون سابق إنذار راح يتقرب مني ويدعونني للجلوس على سريرهِ ويقول لي دائماً ” لماذا تتسلق كل هذا ألأرتفاع لغرض تناول كمية قليلة من الرز؟ إجلس هنا معي وعندما تريد النوم تستطيع الذهاب”.
تعودتُ عليهِ شيئاً فشيئاً ورحنا نجلس ساعاتٍ طويلة مع بعض نتسامر فيها عن أشياءٍ كثيرة . أحسن شيء فيه كان النظافة والترتيب. كان أنظف شخص في المكان على ألأطلاق. يمتلك من الحرف الشيء الكثير. أفضل شيء يجيدهُ الخياطة بالأبرة. يبقى ساعاتٍ طويلة يجلس على سريرهِ يخيطُ قميصاً لفلان وبدلة لفلانٍ آخر. كان قد قدم لي خدماتٍ كثيرة في هذا المجال. كان بمثابة ألأخ وألأب لي في أشياء كثيرة حقاً. حينما كنتُ أجلس أمامهُ وقت تناول الطعام يدقق النظر إلى ملابسي وعندما يجد شيئاً ناقصاً يصرخ بأخوّه نادره ” ماهذا ياصديقي؟ إنزع هذه البدله فوراً” . دون أن ينتظر مني جواباً يقفز إلى حقيبتهِ التي صنعها بيدهِ من أكياس الطحين…حقيبة نادره لاأحد يستطيع أن يصنع مثلها أبداً في ذلك المكان. يُخرج بدلة نظيفة ويقول لي ” إرتدِ هذه البدلة النظيفة وأعطني بدلتك الممزقة كي أخيطها لك” . بعد فترة زمنية قياسية أستلم منه بدله من نوع آخر. أحياناً أقبّلُ قبله أخوية صادقة يبتسم ويقول ” هل هذه القبلة من قلبك أم مجرد نفاق إجتماعي؟” . كان قد إرتاح لي لسبب أنا أعتبرهُ بسيط جداً ولكنه كان يؤكد لي بأنه سبب كبير جداً بالنسبةِ له. في أحد ألأيام كان قد تخاصم مع أحد ألأشخاص وقررت إدارة المعسكر سجنهُ لمدة ثلاثة أيام في زنزانه إنفرادية وطلب منه الجندي المكلف بنقلهِ إلى الزنزانة أن يجلب معه بطانية واحدة. بحث عن بطانية من بطانياته فلم يجد واحدة مناسبة لأنه كان قد خيط بطانياته مع بعض لدرجة لايمكن فصلها عن بعض. راح يصرخ بصوتٍ مرتفع ” أريد بطانية..أريد بطانية ” . كان ألأخرون ينظرون إليهِ ويسمعون إستنجادهِ ولكن دون جدوى. كل واحد يعرف سلفاً أنه إذا أعطاه بطانية فسيعود بها قذره جدا لأنه سيفرشها على ألأرض داخل الزنزانة والمكان هناك قذر جداً ومليء بالبول والقاذورات والحشرات.
حينما شاهدته يقلب نظراتهِ ذات اليمين وذات الشمال بأنكسارٍ وإندحار لم أعد أتحمل الوضع المزري الذي كان يمر فيهِ. دون وعي – كورت – بطانيتي وقذفتث بها إليهِ من الطابق العلوي وكانت البطانية التي أتغطى بها. في اللحظة التي أمسك بها نظر إليّ بعينين حمراويتين وهو يقول ” أنت شريف.. حقاً أنت شريف “. كان ينظر إلى الوراء نحوي وهو يغادر القاعة المكتظة بالبؤساء. عاد بعد ثلاثة أيام وقد ظهر على وجههِ شحوب كبير. في اللحظةِ التي أعاد فيها البطانية لي كان يقول لي ” كنتُ أصلي من أجلك وأدعوا لك بالخير والسلامة كل وقت من أوقات الصلاة…لا أدري كيف أعيد لك ذلك الجميل الذي أعتيرهُ أمانه في عنقي وإنشاء الله سوف لن أنساك”. كانت حادثة البطانية قد قربته مني ومن خلالها كنت قد إكتسبتُ إنسانا رائعاً. كان أبناء منطقتهِ ينفرون منه لسبب واحد وهو أنه عصبي المزاج ويتخاصم مع أي شخص بسهوله عندما يشعر أن حقهُ مغبون وأن أحداً يحاول ألأنتقاص منه. شخص رحيم القلب كريم النفس إذا طلب منه شخص ما أي شيء لايعرف كلمة – لا –.
يتبع……….