22 ديسمبر، 2024 10:35 م

عندما يتكلم الجندي المجهول – 21

عندما يتكلم الجندي المجهول – 21

الحلقة رقم – 21 –
عند سقوط الجليد بغزارة تتجمع الثلوج فوق سطح القاعة بشكل لايُصدق، ويطلب المسؤول من مجموعة البؤساء أن يصعدوا إلى السطح الثلجي لأزالة الجليد عن السطح. العملية صعبة جداً . جاء دوري. خرجنا نحو الفضاء الخارجي الذي يكاد يشبه مجمدة كبيرة. على الرغم من وجود الشمس بَيْدِ أن برودة الطقس كانت لا تحتمل. السلم الخارجي مرعب وضيق ومن لاينتبه يمكن أن يتهاوى على الأرض في لمح البصر. كنا نتسابق في إستخدام ـ المسحاة ـ الوحيدة التي كانت معنا. أي توقف عن الحركة معناه تجمد الدم في العروق.لاتوجد لدينا أحذية تمنع تسرب البرد القارص إلى أقدامنا. عند إنتهاء المهمة شعرت أنني على وشك الأنهيار من شدة تصلب جسدي نتيجة البرد . كانت الفترة الأولى من تواجدي في معسكر ـ قبور الأحياء ـ صعبة من كافة الأمور. من الأشياء التي حدثت وغيرت مجرى حياتنا كأسرى حرب الخليج كما كانوا يُطلقون علينا ، حادثة مزعجة جداً لأنها قلبت حياتنا رأساً على عقب هي هروب أحد الأشخاص من المعسكرات القريبة منا. لم نعرف حتى إسمه وتبين فيما بعد أنه من مدينة ديالى. سمعنا حكايات كثيرة عن عملية هروبه ولكن لا نعرف فيما إذا كانت حقيقية أم أن البعض راح ينسج من خياله تلك الحكايات.

في فجر اليوم التالي جاء عدد كبير من الجنود وطلبوا من الأرشد العراقي أن يوقظنا لأجراء عملية تعداد طارئة لنا. زاد الهرج والمرج بيننا وتساءلنا عن سر ذلك الأزعاج الصباحي المبكر إلا أحداً لم يعلمنا عن أي شيء. أقفلوا علينا أبواب القاعات ولم يسمحوا لنا بالخروج إلى الفضاء الخارجي كعادتنا كل يوم. قطعوا عنا ـ الهوا خوري ـ وهو الوقت المخصص لنا بالخروج إلى الساحة المقابلة للقاعات لأستنشاق الهواء والتعرض للشمس. إستمر ذلك أسابيع طويلة وكنا نستفسر عن سر ذلك المنع المفاجيء ولكن دون جدوى. بعد فترة من الزمن جاء إلى المعسكرضابط أمن قلبَ كافة الموازين القديمة التي كنا معتادين على ممارستها . جاء يمشي متكبراً كطاووس يتبختر في يومٍ مشمس. وقف في وسط القاعة والجنود يُحيطون به من كلِ حدبٍ وصوب . دقق النظر في كل زاوية من زوايا المكان وصرخ دون سابق نذار ” ما هذا؟ ” كان يشير إل حقائبنا المرعبة المعلقة على طولِ جدران القاعة الباردة. وحقائبنا ماهي إلا أكياس كانت تستخدم لحفظ الطحين. إلتفت إلى الجندي الأقدم ” سأحضر غداً إذا وجدتُ مسماراً واحداً فسأدقهُ في رأسك…إذا وجدت حقيبه واحدة معلقة على الجدار سأسلخ جسدك” . وحلت الكارثة بعد خروجة.

جاءت مجاميع من الجنود وراحوا يصرخون ” كل حاجياتكم يجب أن تكون خارج القاعة ، حتى المريض الذي لايقوى على الحركة يجب أن يخرج إلى الفضاء الخارجي ” . رحنا نلعن حظنا العاثر الذي القى بنا في هذا الأتون الذي لاينتهي. وهجم الجنود يمزقون أي شيء معلق على الحائط . يفصلون الأسّره عن بعضها البعض . كنا ننظر اليهم مذهولين مذعورين لتلك الهجمة الشرسة على أماكن نومنا التي تمثل رمز راحتنا وأستقرارنا. بعد قليل جاء الأرشد العراقي وطلب منا التجمع لألقاء التعليمات القاسية التي إستلمها من الجنود. كانت صدمة لنا. قال بحزنٍ شديد ” إخوان إسمعوا جيداً لما سأقولهُ لكم.الضابط الجديد قاسٍ جداً لايعرف معنى الرحمة أبداً. قال بأنه سوف يمنحنا فرصة ليوم واحد فقط للتخلص من كل الأشياء الأضافية التي في حوزتنا . لايريد أن يبقى أي شيء معنا عدا الأشياء الضرورية جدا لحياتنا هنا. فلنمتثل لكل الأوامر اتي يريدها منا لكي تكون حياتنا محتملة هنا لحين قدوم الفرج اكبير.” كانت الأشياء الأضافية التي يتحدث عنها الأرشد العراقي ما هي إلا أسلاب بالية تكدست عندنا بتقادم السنين العجاف.بدأ كل شخص يتخلص من بعض حاجياتهِ التي يتظاهر بأنها فائضه عن الحاجة في حين أنه كان يبكي دموعاً حاره في قرارة نفسه على فقدانها لأنه في حاجةٍ شديدة إليها. من عاش في قبور الأحياء يفهم ما أقوله الآن . سمعت بعضهم يقول بأنه لن يتخلص من أي شيء مهما كان تافهاً فليس لدي الجرأه على ذلك.

فجأةً أصبحت أكوام متعددة لأشياء مختلفة تخرج من هذا الشخص أو ذاك. كان البعض يبحث عن بعض الأشياء التي تخلص منها الأخرون فيجدها مفيدة له ويختطفها من أكمام القمامة ثم يخفيها في حقيبتهِ على أمل أنه سيستفيد منها يوماً ما. وبدأ الجميع يفعلون ذات الشيء لدرجة أن ما يلقيه ” س” يلتقطه ” ص” وهكذا. وجاء اليوم التالي وحلت الكارثه الأخرى، كان الضابط يقف بشموخ وتحدي ويطلب من كل شخص أن ينزع ملابسهِ كلها عدا اللباس الداخلي ويسمح له بأخذ منشفة الحمام وقليل من الأشياء ألأخرى ثم يُصادر كل ألأشياء المتبقية التي يمتلكها الأسير. عدنا إلى أسرّتنا وكأننا قد تعرضنا إلى هجوم واسع. لم يبقِ قلماً ولا ورقة. بعض الأشخاص كانو قد أخفوا أشياء كثيرة في أرضية الحديقة الصغيرة ولكن الضابط كان ذكياً فأرسل مجموعة من الجنود للبحث عن الأشياء المدفونة ووجد أشياء عجيبة . عدنا من جديد نحاول جمع أشياء أخرى ـ تافهه ـ في نظر الضابط ولكنها مهمة جداً بالنسبةِ لنا وأستغرق ذلك شهوراً طويلة.

“العمل في الكوميتة كار”.

بعد سنين طويلة حدث شيء أخر لم أتوقعه أبداً ، شيء جلب لنا قليلاً من النقود وآلام وأحزان لاتنتهي. كان هناك جزء من المعسكر إستخدمته الأدارة لغرض أعمال الخياطة وأستخدموا بعض الأسرى من الخياطين لأنجاز ملابس خاصة بالمعسكر أو للأسرى في جهات مختلفة من البلاد. كانت فرصة ذهبية للشخص الذي يتم قبولهُ بعد الأختبار. سيحصل على فرصة للخروج من المكان الذي نعيش فيه لفترة من الزمن. يستطيع الأسير أن يمشي من المعسكر الذي نقيم فيه إلى مكان العمل بمسافة تقترب من الكيلو متر. سيتمكن من إستنشاق الهواء الصباحي النقي خارج المكان العفن. إضافة إلى أنه يتمكن من مشاهدة بعض المساحات الضبابية الممتدة على مرأى العين وقت الشتاء والحارة جدا وقت الصيف. وتهافت البؤساء لتسجيل أسمائهم وتم إختيار ما يقرب من الثلاثين شخصاً. فرح العاملون لأنهم سوف يستلمون راتباً شهرياً بأجرة يومية تساوي خمسون توماناً وهو مبلغ زهيد جداً لو قورِنَ بمصاريف الحياة اليومية . وفرحنا نحنُ العاطلين لأن العدد داخل قبر الأحياء سوف ينخفض طيلة فترة النهار وهذه فرصة ذهبية لنا للتنقل داخل القاعة بأرتياح بعض الشيء لا أحد يزاحمنا عند الذهاب للمرافق الصحية ونستطيع أن نسير في الساحة الخارجية المخصصة للهوا خوري، والأهم من ذلك كله كانت هناك فرصة جيدة لنا ولهم حيث كانوا يجلبون معهم خبزاً يابساً. مرت سنين عجاف قاسية جداً. كانت فكرة العمل معهم تقض مضجعي وأحلم بها ساعات طويلة ولكن ماذا أفعل فأنا لا أجيد الخياطة.

في سنةٍ ما، جاء الأرشد العراقي وأخبرنا بأنه يحتاج إلى مجموعة أخرى للعمل في ” الكوميته كار” أي لجنة العمل وذلك للعمل في السكائر. طريقة العمل هي تأتي سيارة كبيرة مليئة بالسكائر ــ المنفرطةــ ومهمتنا هي وضع عدد محدد في أكياس نايلون ومن ثم ترتيبها في عُلب كارتونية كبيرة وبعد ذلك يأخذها المتعهد إلى معسكرات الأسرى في مناطق مختلفة من البلاد وتوزع كحصة أسبوعية أو شهرية.سجلت أسمي مع الأخرين . ولكوني مدخن تم قبولي. كانت الليلة التي سبقت العمل مثيرة نوعا ما لجميع المقبولين وبقينا نتحدث عن الكنز الذي سنجده هناك وكم سيكارة سيسمحوا لنا تدخينها طيلة فترة تواجدنا في العمل؟ في الصباح تجمعنا أمام القاعة ــ كافة العاملين من الخياطين، النجارين،الرسامين، وعمال السكائر ــ كان عددنا ستون شخصاً. كنا نسير على هيئة ــ عشرة عشرة ــ كنت في الصف الأول . كانت عيناي تلتهمان كل شيء في الطريق . ياالهي ! هذه أول مرة في غضون سنوات عديدة أسير فيها عند الصباح الباكر هكذا ، أشاهد من بعيد معسكر الجنود وهم يتدربون. أعادت لي تلك الصور مشاهد أليمة وسعيدة في نفس الوقت فقد تذكرت اليوم الأول لدخولي مدرسة ضباط صف المشاة وكيف كان التدريب صعباً وكان ذلك في بداية شبابي.كان بعض الزملاء يتحدثون بصوتٍ مرتفع ويذكرون طرائف عديدة مما جعل الحراس المدججين بالسلاح يصرخون علينا طالبين منا الصمت.

ودخلنا المكان المخصص للعمل ـ جملون كبير ـ بارد جداً إنتشرت فيه مكائن قديمة لتقطيع الأخشاب غير الجيدة.في الجهةِ الأخرى من المكان توزعت مجموعة من مكائن الخياطة القديمة أيضاً. اسرع الزملاء لأحتلال أماكنهم المخصصة. أما نحن فقد بقينا ننتظر بأعتبارنا عمال غير ماهرين.بعد أن بدأ العمل في الأقسام الأخرى جاء جندي مع الأرشد العراقي وأخبرنا بنوعية العمل الذي ينبغي علينا القيام به. تقدنا نحو غرفة مرعبة على شكل رواق طويل مظلم ما عدا مصباح صغير خافت لا يكاد يطرد الظلام إلا بصعوبة. جلسنا على الأرض الباردة جداً . شعرتُ بقشعريرة تدب في أوصالي. كان الهواء البارد ينفذ من النافذة المهشمة فيزيد من رطوبة المكان أضعافاً مضاعفة . طفق الجندي يُفرغ عشرات العلب الكارتونية المليئة بالسكائر ـ بدون فلتر ـ على بطانية قديمة سوداء فتشكل تلاً كبيراً من السكائر ذات الرائحة النتنة . على حين غرة قال الجندي ” ضعوا عشرون سيكارة في كل كيس صغير لا أكثر ولا أقل . لا أريد أن يتكلم بعضكم مع البعض الآخر. دخنوا ما شئتم من السكائر ولكن لا أسمح لأي شخص أن يأخذ معه سيكارة واحدةأثناء الخروج والعودة إلى المعسكر.” على الرغم من برودة الطقس وعدم إكتفاء جسدي من الفطور الصباحي إلا أنني شعرت أن ـ طاقة القدر ـ قد إنفتحت أمامي فجأة. لا أصدق أنني أجلس الآن أمام هذا الكم الهائل من السكائر وأستطيع التدخين بلا قيدٍ أو شرط. تذكرتُ الأشياء الأليمة والعصيبة التي مررتُ بها خلال تلك السنوات الماضية في مسكراتٍ مختلفة وصراعي المرير من أجل نصف سيكارة وأحياناً ـ رشفة واحدة من سيكارة شخصٍ ما.

بدأ العمل وراحت أنامل الجميع المتجمدة من البرد تتحرك بسرعة جنونية وكل شخص يحاول أن يثبت للآخرين أنه أسرع من بقية الزملاء. في البداية شعرتُ ببعض الأرتباك لعدم تمكني من اللحاق بأنامل الزملاء السريعة جداً. كان ملازم إبراهيم ودكتور حسن من أسرع العاملين . كانا يملآن الكيس الواحد بطريقة عجيبة وكأنهما كانا قد مارسا هذا العمل منذ زمنٍ بعيد. بعد فترة من الزمن تعلمتُ كيفية تحميل الكيس وكيفية إدخال الأصابع المليئة بالسكائر وكيفية مواصلة العمل. أما الزميل سالم درع ذلك الفتى الضخم الجسد فقد كانت السيكارة لاتنطفيء من أمامه منذ لحظة العمل حتى نهاية الدوام. كان يحب المزاح على الدوام ويتكلم عن قصص لا تعد ولا تحصى يحاول من خلالها قضاء الوقت وطرد شبح الملل الذي لا يرحم . كان يضع علبة معدنية أمامه يستخدمها كمنفضة سكائر ويضع السيكارة منذ نقطة الشروع بالعمل ويتركها أحياناً دون أن يمسها ويقول ” يجب أن لا تنطفيء سكائرنا منذ لحظة العمل حتى مغادرة المكان ، ينبغي أن ننتقم لأصدقائنا الذين يتحسرون على سيكارة واحدة الآن ” . وتبدأ سكائرنا بالأتقاد ويتصاعد الدخان فيغطي فضاء الرواق الطويل البارد. المتضرر الوحيد في هذا العمل هو الدكتور حسن لأنه لا يدخن و لاأدري لماذا جاء للعمل معنا وهو يكره رائحة التبغ…..أوه.. عرفت فيما بعد أنه يريد التخلص من حالة الرتابة التي تلفه هناك في المعسكر إضافة إلى حصولة على كمية قليلة من النقود. بين فترة وأخرى يرفع الدكتور حسن عيناه المرهقتان ” بالمناسبة هو دكتوربيطري وليس بشري” ولكننا نناديه بالدكتور ولا أحد يناديه بأسمه أبداً ، ينظر الينا والدموع تنساب من عينيهِ بسبب الدخان و البرد الشديد ويقول ” أُخوان التدخين مضر للصحة ” ويضحك الجميع بصوتٍ مرتفع وكأننا نسمع أرقى طرفه في العالم. فجاًة يقول سالم درع ” أخوان إملؤا الأكياس ….ضعوا فيها أربعون سيكارة بدلاً من عشرين ، هذه الأكياس ستذهب إلى معسكرات الأسرى في كل البلاد سيفرح الشخص حينما يجد سكائر إضافية في كيسهِ” .

ويبدأ السباق من جديد . كنت ُ أضع خمسة وأربعون سيكارة بدلاً من عشرين. في إحدى المرات وضع حامد الراعي ستون سيكارة وبالصدفة شاهدهُ الجندي المكلف بحراستنا فصرخ به ” ما هذا ؟ هل أنت مجنون؟ ” . إرتبك حامد وأحمرّ وجهه وهو يقول بتلعثم ” عفواً لقد حدث خطأ ….لن يحدث هذا مرة أخرى “. الحديث عن مكان العمل في السكائر طويل لاينتهي لذلك سأحاول ذكر بعض النقاط الأساسية. كان بعض الزملاء يحاولون أن يقضوا وقتهم بأي طريقة تزيل عنهم جزءأً من العناء الرهيب. الجلوس الطويل على وتيرة واحدة وفي ذلك المكان البارد يجعل الجسد يئن ويقاسي آلاماً شديدة في الظهر والركبتين. بعد عشرة أيام شعرتُ بآلام شديدة تنفذ إلى عمودي الفقري. قلة الأنارة تجعل العينان تدمعان بشكل لاينقطع. رائحة التبغ النتنة تجعل الصدر يضيق وتصبح عملية التنفس صعبة نوعاً ما.يوماً بعد آخر بدأت أشعر بالضيق من هذا العمل وبدأ الصراع الداخلي يزداد يوماً بعد يوم ، ولولا الحياء من الزملاء لتركتُ العمل فوراً. كانوا يحاولون إقناعي بالبقاء كلما إشتدت حالتي النفسية وظهرت بوادر كرهي للعمل العقيم. بدأت أواصر جديدة من الزمالة تتوطد بيننا ، شعرتُ أنهم أصبحوا جزءأً من عائلتي لا بل هم عائلتي. لم أكن أشعر بهذا النوع من الشعور بيني وبين الأعداد الكبيرة في المعسكر الكبير. في هذا المكان النتن فتح كل واحد منا قلبه للآخر وبدأت القصص الشخصية العائلية تنهال علينا ـ من بعضنا البعض ـ بشكل عجيب.

في صباح أحد الأيام ضاق صدري وبدأتُ اتحدث مع ألأخ عماد وفجأة صاح الجندي ” لا تتكلم ” . وبعد فترة قصيرة عدتُ للحديث مع عماد وصرخ الجندي المتحجر القلب ” إذا تكلمتَ مرة أخرى سوف أطردكما من العمل “. بدم بارد قلتُ له ” وماذا يعني ذلك؟ إذا فصلتني من العمل فلن يؤخر هذا أو يقدم شيء. هذه السكائر قذرة وأتمنى أن أتركها الآن. ” ونهضتُ واقفاً. نظر إلي وهو يقول ” لماذا نهضت؟” قلت ” أريد العودة إلى المعسكر لم أعد قادراً على العمل هنا” . حاول أن يقنعني بأنني لن أعود إلى هذا المكان إذا تركتُ العمل . أخبرته بأن ذلك سيكون أفضل. وفي غضون دقائق كنت عائداً في طريقي إلى المعسكر معه. في اليوم التالي لتركي العمل شعرت ببعض الضيق لأنني تعودت على منهج خاص كل يوم ولكن بعد فترة من الزمن عدت إلى سابق عهدي وطريقة حياتي القديمة. إنشغلت مع شاب بسيط طيب القلب من مدينة الحويجة ريفي من الدرجة الأولى إلا أنه يملك طموح لايقل عن طوح سطام . طلب مني تعليمه مادة اللغة الأنكليزية ، كان أمياً نوعا ما. طيب القلب وكريم الخلق . يحب أن يخدم الآخرين بأي طريقة متاحه له. بدأتُ معهُ بنفس الطريقة التي كنتُ قد طبقتها مع الشاب ـ سطام ـ . راح يحفظ دروسه ليلاً ونهاراً ويستغل كل دقيقة تمر عليه لكنه لايملك نفس ذاكرة سطام بّيْدَ أن إصراره وتكراره المتواصل للموضوع الذي يدرسه جعله يحفظ أشياء كثيرة, كنا نمشي معاً كلما سنحت الفرصة لذلك ولكنه كان يصر للسير معي والحديث عن مواضيع مختلفة. كنتُ بالنسبةِ له كتاب مفتوح يتعلم منه أشياء كان يحلم بالأطلاع عليها لو لم تتسنى له هذه الفرصة ِ الذهبية . أحياناً أحسده في قرارة نفسي لأنه حصل على مدرس مجاني . لو كان هناك معنا شخص يتقن أي لغة أجنبية أخرى لتعلمتُ منه الكثير لا بل لأتقنتها تماماً. الظرف الذي كنا فيه يتيح للشخص الذي يريد أن يتعلم ـ يمكن أن يحقق أشياء خرافية على المستوى الثقافي ـ . لو كانت لدينا مكتبة تحتوي على كل الأعمال الأدبية في العالم لقرأتها كلها . لو كانت لدينا مصادر عن الطاقة أو التاريخ أو ألأقتصاد أو الجغرافية أو أي علم من العلوم الأنساية لقرأتها كلها. ولكن هناك ألف لكن تبقى تقذف في أرواحنا علامات الحسرة والدموع على كل شيء ينتمي إلى الحضارة والعلوم المختلفة.

كانت لدينا كتب دينية مكررة قرأناها كلها وكانت عبارة عن مواضيع متشابهه تماماً. الشيء الوحيد الذي أستفدتُ منه هو الكتاب المقدس للمسلمين حيث راح الجميع يتسابقون لحفظ أجزاء منه. بدأ يحفظ بعض الأغاني الأجنبية التي كنت أرددها مع نفسي حينما تتأزم الحالة النفسية ولكنه كان يضع لحناً لها حسب رغبته وليس اللحن المتبع في أدائها. بعد فترة من الزمن طلب مني تدريسه اللغة العربية لأنه كان بالكاد يستطيع كتابة بعض الكلمات. قضيتُ معه ساعات طويلة أدرسهُ ” نهج البلاغة ” وأتخذت من الكتاب كوسيلة لتدريسه ألاملاء. كل يوم كنت أملي عليه خطبة كاملة لتقوية أملاءهِ. تقدم في دراسته للعربية وأصبح إملاءه جيد نوعاً ما. في يوم من الأيام ـ كان شهر رمضان المبارك ـ شاهدته يحمل كتاب نهج البلاغة ويحاول حفظ إحدى الخطب الصعبة. حينما سألته عن سبب محاولة حفظه لتلك الخطبة الصعبة أجابني بأن هناك مسابقة ستقام في المعسكر عند نهاية شهر رمضان أو لنقل في الأيام ألاخيرة من الشهر والفائز الأول سيحصل على قلم ودفتر كهدية وأكد لي بأنه يجب عليه أن يفوز بتلك المسابقة لأنه في حاجة ماسة إلى قلم ودفتر. طلبتُ منه أن يعيد على مسامعي ما كان قد حفظه عن ظهر قلب. تأسفتُ له ولذلك الجهد الكبير الذي كان قد راح في مهب الريح. كانت طريقته في القراءة مضحكة حقاً تشبه الهنود الذين يتكلمون العربية. كان ينطق مخارج الكلمات أو الحروف بطريقة رديئة جداً حتى أنني كنت أضحك أحيانا دون قصد وليس لغرض الأستهزاء أستغفر الله . نظرتُ إليه بطريقة حنونة حقاً. كنت أجد أمامي قوة خارقة من التحدي والصمود والرغبة للوصول إلى هدف صعب المنال جدا بالنسبة له وفي نفس الوقت أجد طريقة خاطئة قد لا تصل به حتى إلى المركز الأخير من المسابقة.

يتبع ……