الحلقة رقم – 19 –
دخل سطام في حياتي أثناء وجودي في الأرض المنسية دون تخطيط مسبق. تعودتُ على صحبته وتعود هو على الآخر على صحبتي . لا يمضي يوم واحد دون أن نقضي معاً ساعاتٍ طويلة في الدراسة وأشياء أخرى. في البداية كنت أجد بعض ألحرج في ذلك لأن لدي برنامج طويل لحفظ قاموس المورد. حينما كان يسير معي أضطر إلى إيقاف برنامجي لغرض متابعة طريقتهِ في التلفظ وأستمع اليه حينما يضع الكلمات في جمل مفيدة. يوماً ما قلت له بحياء ” تعرف أنني بدأتُ بمشروع طويل وصعب وهو حفظ قاموس المورد عن ظهر قلب وأحتاج دراسة يومياً عشر ساعات فأذا أقضي معك كل هذا الوقت فلن أستطيع حفظ شيء . يجب أن تحدد ساعة واحدة لك يوميا كي أمتحنك وأستمع إلى طريقتك في تلفظ الكلمات وماشابه ذلك.”
قبل أن أنهي كلامي قال بحماس شديد ” حسناً سأدرس معك وأحفظ القاموس معك . سأكون مفيد لك في بعض الأمور أثناء حفظك للكلمات”. نظرتُ اليه بتعجب وكأنني لم أصدق ما كان يقول. وبدأنا نحفظ سوية . طريق شاق وطويل. كان يتفوق عليّ أحياناً في تذكر بعض الكلمات التي كنا نحفظها معاً. يوماً بعد آخر إزداد نشاطنا مع بعض وشعرتُ بسعادة كبيرة لأن هذا الفتى القادم من أعماق سنجار بدأ يفهم ويستوعب ما كنت أتحدث به اليه. كنا نقضي ساعات طويلة تحت أشعة الشمس المحرقة وتحت برودة الطقس التي لا تطاق. كنتُ أحفظ مئة كلمة كل يوم وكنتُ أشعر بمدى العذاب الذي كان سطام يعانيه . في إحدى المرات قال لي بحياء ” أستاذي العزيز…لماذا لا نحفظ عشرون كلمة في اليوم الواحد بدلاً من مئة كلمة لأن قليلٌ دائم خيرٌ من كثير زائل. ” وبالفعل وجدتُ أن كلامهُ صائب ومنطقي.
تقدم الزمن الصعب وتقدم الليل وأزداد الجوع الذي راح يحطم الأعصاب. نظر الفتى ناحيتي وعلامات الأرهاق ظاهرة على وجهه بوضوح. قال بهدوء” الآن الساعة الحاديةعشرة ليلاً ..بقي وقت قصير. سأذهب لتحضير ” الجولة” كي أضع عليها ” قوطية ” الشاي. ومن لايعرف المعنى ” العلمي للجولة…فهي عبارة عن مدفأة صنعها أحد الزملاء من عدة صفائح معدنية. ” طلبتُ منه أن أذهب إلى سريري كي أستلقِ بعض الوقت لحين قدوم موعد الحفلة المرتقبة ولكنه رفض ذلك معتقداً بأنني أريد الهروب ونسيان الحفلة التي كان قد أعّد لها منذ زمن بعيد. شعرتُ بنعاسٍ عجيب وآلام شديدة في ساقي بسبب السير الطويل داخل القاعة الباردة جداً. ذهبتُ معه لألقاء نظرة خاطفة على الكيكة التي صنعها . كان يحتفظ بالقطعة ” اللذيذة” في إناء معدني لو وجده أي إنسان في أي مكان لما نظر إليه …ولا أدري كيف حصل عليه ؟ .
جعلني أنظرُ إلى الجولةِ بنارها الزرقاء وقد وضع عليها ” قوطية” معدنية صغيرة وقال بسعادة ٍ كبيرةٍ ” أنظر يا أستاذ ..سنتناولها بعد ساعةٍ من الآن وقد حضرتُ لك مفاجأة” .حاولتُ أن أجعلهُ يقول لي عن نوعية المفاجأة ولكنه قال لي بالأنكليزية ” ليس ألأن ولكن فيما بعد” . عندما إقتربت الساعة من الثانية عشرة ليلاً تسلقنا إلى سريري القريب من السقف. كانت السماء تمطر مطراً غزيراً وكانت بعض قطرات الماء المتسربة من السقف تصل إلى جانب السرير. كان سطام قد غطى ألاناء بمنشفتهِ التي يستخدمها للأستحمام وكان يعلل سبب تغطيتها بقولهِ أن أغلب الزملاء يتضورون جوعاً وقد يشاهدها أحد الجائعين وبالتالي سيقع علينا نوعاً من ألأثم لأن بعضهم لايستطعيون أن يفعلوا مثل تلك الوليمة . وضع ـ الجولة ـ على الأرض قرب سرير أحد الزملاء وبين فترة وأخرى يصرخ بصوت مرتفع ” أبو شكر إنتبه للجولة “.
دقت الساعة الثانية عشرة ليلاً وقفز ـ علي دولي ـ من فراشهِ وأتجه ناحية زر المصباح الكهربائي الخافت وأطفأهُ لمدة دقيقة واحدة وصاح بعدها ” كل عام وأنتم بخير ” . أعاد فتح الزر الكهربائي . حدثت ضوضاء بعض الشيء وراح كل واحد يقول للشخص القريب منه ” كل عام وأنت بخير ” . أزاح سطام الستار عن قطعة الكيك وخطَّ في وسطها خطاً بملعقتهِ وقال ” أستاذ هذا الجانب لك وهذا لي لا أقترب من ضفتك ولا تقترب من ضفتي “. كان مشهد ـ العجينة ـ عفواً أقصد الكيكة يسرُ الناظر. لونها قهوائي ويبدو أنه بذل جهداً كبيراً في سبيل تحميصها . تناولتُ الملعقة الأولى ثم الثانية ..كان طعمها حلو المذاق لم يدخل في فمي مثل هذا الطعم منذ فترة طويلة من الزمن. كنتُ أتضور جوعاً لدرجة أن يدي كانت ترتجف أثناء قطع أي قطعة صغيرة. كنت أحس أن هناك ذرات صغيرة من الرمل تدخل فمي أثناء قضم أي لقمة. لم أهتم لذلك لأن الجوع وكما يقول المثل ” أفضل طاهٍ في العالم” . قساوة الجوع غطت على قساوة ذرات الرمل الصغيرة بين أسناني.
كان سطام يحاول اللحاق بي أثناء مضغ لقمتهِ …كنتُ سريعاً جداً في تناول قطع العجينة . حاول أن يتكلم أو يُعلّق بشيء بيد أنني أشرتُ إليه بعدم الكلام أثناء تناول الطعام كي لا نفقد متعة تذوقها. لم أكمل حصتي المقررة . فجأةً قلتُ له ” إكتفيتُ …شبعتُ تماماً. الحمد لله الذي رزقني ورزقك من فضلهِ” . وضعتُ ملعقتي جانباً. نظر الفتى الأسمر صوبي بأندهاش وهو يقول ” ما هذا يا أستاذ؟ أنت لم تنهي حتى ربع حصتك ! هذه فرصة ذهبية لن تتكرر إلا بعد عام إنْ بقينا على قيد الحياة. ” إبتسمتُ له بهدوء وأنا أريح جسدي على الوسادة القريبة وقلت له ” بالعافية حصتي الباقية لك ” . حينما سمع العبارة الأخيرة قال بأرتياح ” كما تريد يا أستاذ ” . كان يتناول العجينة بشكل ملفت للنظر وكأنه مخلوق بشري لم ير طعاماً منذ عشرات السنين . قبل أن يبتلع اللقمة يضع ملعقة أخرى في فمهِ. بعد إنتهاء الوليمة تنفس الصعداء وأزاح الأناء جانباً وصاح على الزميل القابع في الطابق الأول حيث يوجد سريرهِ وحيث توجد الجولة وقوطية الشاي. ” ناولني العلبة المعدنية الحارة “.
بعد أن شربنا الشاي أدخل يدهُ في جيبهِ وأخرج سيكارتين فلتر . نظر إليَّ بكبرياء وهو يقول ” إنظر يا أستاذ ….لقد وفرتُ هاتين السيكارتين منذ زمن بعيد لهذه المناسبة الفريدة. تمنيتُ أن أقدم لك في هذه المناسبة عدد أكبر ولكن تعلم أن العين بصيرة واليد قصيرة. ” أخذنا نتكلم عن مواضيع مختلفة باللغة الأنكليزية وكان متلهفا للحديث عن أي شيء بلغتهِ الجديدة. كان يرتكب بعض الأخطاء من ناحية القواعد ولكنني لم أكن أصحح له ذلك كي لايشعر بالحرج والأرتباك ولكنني أفهم مايريد قولة بالأضافة إلى أنني أردت أن أزرع فيه روح الجسارة حينما يريد التعبير عن أي شيء. الشيء المهم الذي كنت قد وجدته فيه أنه لا يرتبك ويحاول أن يقول أي شيء وهذا شيء جميل جداً.
حينما دب التعب إلى جسدينا ذهب كل واحد منا إلى فراشهِ على أمل اللقاء عند العاشرة صباحاً . بقيتْ ذكرى تلك الوليمة عالقة في ذاكرتينا سنوات طويلة فقد أصبح إقامة مثل تلك الحفلة شيء مستحيل لظروف صعبة كنا نمر بها على طول الزمن. وأستمر الفتى سطام يلازمني كظلي لا نفترق لحظة واحدة إلا عند النوم. في الأسر تحدثُ أشياء غريبة وعجيبة . أحياناً يتحول الصديق إلى عدو والعدو يتحول إلى صديق مفارقة عجيبة في زمن الخوفِ والرهبةِ من كلِ شيء. تحدث أحياناً مشاجرات خطيرة بسبب أشياء تافهة تُحيل المكان المغلق إلى جحيم حقيقي. أما سطام فقد أحدث ثورة عجيبة من ثورات التعلم والتعليم في ذلك المجتمع الضيق. عندما بدأ يتكلم اللغة الأنكليزية جاءني عدد كبير من الزملاء يحاولون رجائي لأعطائهم محاضرات أولية في اللغة الأنكليزية.
كانت الغيرة في المكان المنسي الذي كنا نعيش كل تفاصيلة المرعبة تلعبُ دوراً في خلق منافسات شديدة بين الزملاء . وجدتُ أنه من المستحيل أن أقوم بتدريس كل شخص على إنفراد خصوصاً بعد أن إزداد العدد لذلك طلبتُ منهم أن يجتمعوا مع بعض مقابل ساعة واحدة كل يوم. بدأتُ بتدريس مجاميع مختلفة من الساعة الثامنة والنصف صباحاً حتى الخامسة عصراً وأحياناً حتى الساعة التاسعة ليلاً. لم يكن سطام هو الشخص الوحيد الذي كان له دور مهم في حياتي أثناء تواجدي في قبور الأحياء. كان هناك شخص نطلق عليه إسم ” أبو فيروز” مع العلم أنه ليس لديهِ أي طفل . كان يعشق المغنية فيروز بشكل كبير لذلك أطلق على نفسهِ أسم أبو فيروز. لقد أحببته بشكل لا يوصف على الرغم من وجود بعض الأختلافات البسيطة بين شخصيته وشخصيتي.
كان لهذا الشخص دور فعّال في تلك الحقبة الزمنية التي عشناها سوية .إنسان يحمل من الصفات ما يعجز القلم عن ذكرها في مجالٍ ضيق كهذا. حينما أريد الكتابة عن بعض الأشخاص في هذه المذكرات أجد نفسي منحازاً إليهم رغماً عني …مهما حاولت تجاهلهم أو إتخاذ موقف الحيادية في هذا الموضوع أجد نفسي عاجزاً عن ذلك. من هؤلاء الأشخاص أبو فيروز. لقد علمني أشياء كثيرة لم أكن أحصل عليها لو عشتُ في هذا المكان آلاف السنين. كان كتاباً يسير على الأرض بصفة إنسان. أي شيء تسأله تجد عنده جواباً حتى لو كان مقتضباً . ينحدر من عائلة إتخذت من الأدب والشعر مرتعاً لها منذ أن وُجدت على هذه الأرض. لا أريد أن أتحدث عن المعتقدات الدينية والأجتماعية التي يؤمن بها لأن هذا الشيء يُعتبر من الأشياء الخصوصية التي لا يحق للأخرين التدخل فيها .
يوماً ما كان والده رئيساً للمعارض العراقية في زمن الستينات أو قبل ذلك لا أعرف بالضبط متى؟ يوماً ما حمله عبد الكريم قاسم في أحضانهِ حينما زار المعارض العراقية . حينما كان يافعاً جاءته فرص يمكن أن نطلق عليه بالذهبية لو كان قد إستغلها بالطريقة العقلانية ــ حسب قولهِ ــ بيد أن عبثيته وعدم مبالاته قادته إلى هذه الظروف القاسية التي يعيشها معي الآن . كان يعترف لي بحزن ويقول ” نعم ….أنا أستحق أكثر من هذا العذاب”. كانت معرفتي به في البداية سطحية مجرد إلقاء التحية حينما يمر من أمامي وأحياناً حتى هذه التحية تنعدم بيننا .كان سريرهُ قريباً من سريري ولكنني أشعر أن مسافاتٍ هائلة تفصل بيننا. في قرارة نفسي كنتُ أتمنى أن أقترب منه وشعرت أنه هو الأخر يتمنى أن أقترب منه ولكن الخوف من كل شيء هو الذي يفصل بيننا ويجعلنا نتحاشى الأخر.
كنتُ أراه يجلس دائماً مع شخص عجيب لا ينتمي إلى شخصيتهِ ولا ينتمي إلى بيئتهِ الأجتماعية والثقافية التي كان قد ترعرع فيها . البون الشاسع بينهما جعل أغلب الزملاء ــ في قبور الأحياء ــ يتسائلون عن سر تلك العلاقة القوية بينهما. أنا لا أريد أن أحط من قدر الشخص الأخر ــ أستغفر الله ــ ولكن يبقى السؤال الكبير الذي يلح على ذهن كل من يراهما معاً…لا يقترقان أبداً وكأنهما خُلِقا هكذا . هل يمكن أن يكون إنسان مثقف جداً ومطلع على كل مؤلفات الأدباء في زمنٍ ما وله قالبية الكتابة بشكل يُذهل العقول وله قدرة جبارة على الحديث في أي موضوع يُطرح للنقاش أن يكون صديق إنسان شبه أميّ لايكاد يكتب أبسط الكلمات إلا وأرتكب خطأً فادحاً حتى طريقتهِ في الكلام ثقيلة …إن هذا لشيء عجيب؟ ولكنني فهمت السبب الذي جعلهما يذوبان في بعضهما البعض وقد أذكر ذلك حينما يأتي الدور للحديث عن الشخص الأخر، لأنه هو الأخر كان له دور كبير في حياتي هناك .
يتبع ……………………………………………………………………………….