8 سبتمبر، 2024 3:59 ص
Search
Close this search box.

عندما يتكلم الجندي المجهول – 18

عندما يتكلم الجندي المجهول – 18

الحلقة رقم – 18 –
كانت قلة السكائر تلعب دوراً مهماً في حياة الأسير المدخن. في يومٍ من الأيام وبينما كانت حالة الإرهاق الجسدي والنفسي تقذف بي إلى شاطئ المعاناة إلى ساحل الاحتراق الداخلي المحطم للأعصاب، استلقيت على فراشي القذر في الطابق الثالث ــ كانت الأسَرة تتكون من ثلاثة طوابق ــ وكنتُ أفضل الطابق الثالث لأسباب عديدة منها : يكون السرير بعيداً عن السائرين داخل القاعة الطويلة وهم يتكلمون باستمرار بصوتٍ مرتفع. هناك أسباب كثيرة لايمكن التطرق إليها بالتفاصيل. كما قلت قبل قليل..كنت مستلقياً على فراشي وكانت حرارة القاعة الجهنمية تقض المضاجع وتجعل الجزء الداخلي والخارجي للجسد ينضح عرقاً بلا انقطاع . كانت نظراتي تتحرك على السقف القريب ترسم صوراً وهمية لحياة غامضة. أما الأفكار المختلفة فقد كانت تعصفُ بروحي وذهني وتجعلني أهيم في عالمٍ خيالي وهمي لا حدود له. السيكارة المفقودة في خزانتي تلح عليّ للحصول على رشفةٍ واحدة بأي ثمن ولكن الجميع لا يملكون سكائر إلا ما ندر منهم. وأنا في وسط أحلامي الوهمية وعلى وشك السباحة في نومٍ متقطع تسلق أحد الشباب الطابق الأول ثم الثاني إلى أن وصل إلى المكان الذي أنام فيه. هزّ كتفي الأيسر بهدوء وكأنه يخاف من إيقاظ شخصاً عزيزاً .

سمعته يقول بحياء ” أستاذ..أستاذ “. أزحت اليد اليسرى التي كانت تستقر على عينيّ بإرهاق. شاهدتُ شاباً يافعاً أسمراً وكأن شمس الأسر قد لونت وجهه بلونٍ قهوائي. كانت عيناه تتحركان حركة سريعة جداً علامة قلق واضطراب لا ينتهي. لم أرفع جسدي عن الفراش. كانت شفتاي تتحركان ببطيء وكأنهما قد سئمتا الإجابة عن أي سؤال يوجهه أؤلئك الذين فقدوا فرصة التعليم الابتدائي. قلتُ له ” تفضل ماذا تريد؟ تكلم بسرعة أريد النوم ؟”. دون تردد أخرج لفافة تبغ وهو يقول ” عفواً أستاذ سمعتُ أنك لا تملك سكائر . جلبتُ لك هذه وهي خاصة جداً ، كنتُ أخفيها منذ زمن طويل”. قلتُ له على الفور ” هل أنت متأكد أنك تريد أن تقدمها لي أم أنك جئت بالخطأ؟ ” ابتسم بحياء وهو يلقي السيكارة على صدري. خطفتُها وأنا لا أصدق أن هذا الفتى يتبرع لي بلفافة التبغ الوحيدة التي يملكها في ذلك الزمن المر. أخرج عوداً من الثقاب وأوقدها لي . حينما أخذتُ نفساً عميقاً شعرتُ أن الأرض تميدُ بي . حينما استعدت توازني قلتُ له بجدية تامة ” قل ماذا تريد مني؟ لا أحد هنا يقدم شيئاً بلا ثمن”. قال على الفور ” أستاذي العزيز ، أريد أن أتحدث معك في موضوع شخصي يتعلق بي فقط” .

نظرتُ حولي . كان كل البؤساء يتمددون فوق أسرتهم نصف عرايا وهم يحاولون التخلص من شدة الحر عن طريق تحريك قطعة من الورق ” كارتونه” أمام وجوههم بحركةٍ سريعةٍ جداً . أدركتُ أن الوقت غير مناسب للحديث في هذا الوقت من الظهيرة. دون أن أنهض من رقدتي قلتُ له على الفور ” حسناً ولكن بعد الساعة الرابعة حينما نخرج إلى الفضاء المخصص لحركتنا خارج القاعات. أنا الآن مرهق جداً وأحتاج إلى قسطٍ من الراحة.” فرح الفتى وهو يقول ” سآتي اليك في الرابعة والنصف عصراً بعد توزيع الشاي هل هذا مناسب بالنسبةِ لك؟” حينما أجبته بالإيجاب ودعني بسرور وراح ينزل بطريقةٍ هادئة خوفاً من إيقاظ النائمين باضطراب فوق أسرتهم المتحركة على الدوام . وأنا أرتشف سيكارتي بنهمٍ راحت أفكاري تمتزج مع بعض مستفسرة عن الموضوع الذي يريد مناقشته معي. لم يكن لهذا الفتى أي وجود في حياتي هناك منذ اليوم الأول الذي جئتُ فيه. لم يكن بيننا أي كلامٍ ولا حتى سلام. كنتُ أشاهده يتكلم مع أبناء الموصل فقط. كان صوته هادئاً مبحوحاً بعض الشيء. بعد فترة قصيرة شرد ذهني إلى مواضيع عديدة وبالتالي تلاشت صورة الفتى عن مخيلتي تماماً.

عند الرابعة والنصف كان الفتى يقف قرب سريري . نظرتُ إليه مبتسماً ثم هبطتُ من فراشي المرتفع . صافحته بهدوء ثم قال لي:” هل نستطيع أن نسير في الساحةِ المخصصة لنا ؟ أرجو أن لا أكون قد سببتُ لك أي إزعاج؟ أعرف أن ظروفنا جميعاً شاقه هنا ولكن ليس في اليد حيلة .” سرنا جنباً إلى جنب صامتين لا نعرف من أين نبدأ ؟ كان فتى خجولاً جداً ينظر إلى الأرض بحياءٍ مفرط وهو يُسبِّحْ بمسبحتهِ الحمراء الصغيرة. على حين غره قال ” عفواً أستاذ لدي شيء خاص أود الحديث عنه معك. حدثتُ بعض الزملاء المقربين جداً عن هذا الموضوع ولكنهم راحوا يسخرون مني ويقولون لي بأنني مجنون. أرجو أن لا تسخر مني كما فعل الآخرون. سأقبل جوابك مهما كان. ” تمنيتُ أن يدخل في صُلب الموضوع دون اللف والدوران كما يفعل البعض هنا حينما يريدون الحصول على شيء معين. دون مقدمات أخرى قال : ” هل تعتقد أنني أستطيع أن أتعلم اللغة الإنكليزية ؟” سكت قليلاً ثم أضاف بجدية تامة ” أنا لم أنهي الخامس الابتدائي لظروف خاصة ولكنني قد أتعلم إذا كانت لديّ الرغبة والطموح والمثابرة والإصرار وهذه الأشياء جميعاً متوفرة لديّ والحمد لله . سأدفع لك خمس سكائر كل شهر كثمن للتدريس والأتعاب. سأكون عند حُسن ظنك . ماذا تقول؟” .

نظرتُ إلى قسمات وجهه الأسمر فشاهدتُ في عينيهِ مزيجاً من التحدي والإصرار . كانت شفتاهُ ترتعشان من شدة التوتر والانفعال . أشفقتُ عليه في البداية بيد أنني وجدت أمامي شخصاً أمياً فيما يتعلق بهذه اللغة. كيف سأعلمهُ وماذا أعلمهُ… وأنا أعيش في تلك الحالة النفسية المزرية وذلك الجوع الذي أكاد أصاب بالجنون بسببهِ ؟؟. إن هذا لشيء مستحيل ! . بقيتُ مطرقاً برأسي نحو الأرض دون أن أتفوه بحرفٍ واحد . ظل يسير إلى جانبي صامتاً كأنه في موكب جنائزي. كنتُ أسمع لهاث أنفاسهِ وكأنه كان يترقب شيئاً مصيرياً خطيراً. أوقد سيكارة ــ أشنو ــ وقدم لي واحدة كعربون لطريقٍ طويل من المشقةِ والعذاب. ( ملاحظة: لا أدري كيف حصل على هاتين السيكارتين في هذا الوقت لأن الجميع كانوا لا يملكون أي سيكارة فقد مضى وقت طويل على توزيع أخر حصة لنا “.

دون تردد قلت له ” إسمع جيداً لما أقوله لك. إذا طبقت كل التعليمات التي أعطيها لك فأنني سأوافق على تعليمك “. وقبل أن أسترسل في حديثي معه عن أي شيء إندفع قائلاً ” موافق على أي تعليمات تقدمها لي مهما كانت قاسية على شرط أتعلم . ” وأخيراً تم عقد الصفقة التي كان يحلم بها . كان ” سطام ” شاباً قادماً من اعماق مدينة سينجار التابعة للموصل. والدهُ متمكن من الناحية المادية. كانت لديهِ شاحنات لنقل الحبوب المختلفة من وإلى الموصل بالأضافة إلى بعض الأعمال الحرة الأخرى. على الرغم من محدودية ثقافته الأكاديمية إلا أنه يملك طريقة جيدة للحديث مع من يجلس معه. لديهِ قابليةعالية لأختراع الفكاهات البسيطة ويحاول أن يقلد الأوربيين في تسريحة شعرهِ . كان هو الوحيد الذي يتكلم حينما يسير مع زملائهِ من نفس عمره . حدثني عن أدق التفاصيل عن عائلتهِ وولدهِ الصغير وزوجته التي تشبه بطلة ــ الجيش السري ــ.

في نهاية اليوم بدأت المنازلة الحقيقية مع الطريق التعليمي المرهق الطويل. كتبتُ له الحروف الأنكليزية وعلمته كيفية تلفظها الصحيح. إعتقدتُ أنه سوف يضجر بعد ساعة أو ساعتين ولكن العكس هو الذي حدث مما أثار دهشتي حقاً. كنتُ أراهُ لمدة يومين متواصلين يسير وحدهُ تحت أشعة الشمس المحرقة يقرأ بصوتٍ مرتفع وكان بقية الزملاء يسخرون منه ويصفونهُ بالمجنون. سمعتُ أحدهم يقول له ” ماذا ستفعل بهذه اللغة؟ هل ستتحدث ُ مع الأبقار حينما تعود إلى سينجار؟ ” كان لايهتم لكلامهم أبداً. وجاء يوم الأختبار وعندها سوف يصمد أو ينهار. جلس على سريري أصفر الوجه وكأنه كان ذاهباً للمقصلة . بعد الأنتهاء من المجاملات قال بحذر وذعر :” أنا جاهز يا أستاذ للاختبار”. كنتُ أختبرهُ بدقة متناهية وأبحث عن أي عذرٍ كي أكيلُ له اللوم والعتاب. كان يدافع عن نفسه بكل جداره ونجح في اليوم الأول بدرجة إمتياز. في اليوم التالي كتبتُ له عشر كلمات بسيطة وراح يقرأ كل النهار ويأتي بين فترة وأخرى يستفسر عن تلفظ قسماً منها. بعد شهر كان قد حفظ عن ظهر قلب أكثر من 300 كلمة . كان جديراً بالأهتمام حقاً.

بدأت مرحلة جديدة من التعليم معه. شرعتُ أعطيه قواعد اللغة وكان يستجيب بشكلٍ ممتاز. كان يسألني كل لحظة يشاهدني فيها. في النهاية أصبح كظلي لايفارقني فقط عند ساعات النوم. كنا نسير سوية منذ لحظة النهوض صباحاً حتى لحظة إطفاء الأنوار في الليل. بدأ يحرز تقدماً ملحوظاً. في أحد الأيام جلسنا سوية على سريري في الطابق الثالث وكانت بيني وبينه منضدة صغيرة صنعتها من قطعة خشب كي أضع عليها قدح الشاي والأناء المعدني الوحيد أثناء تناول طعمي. فجأةً سألني :” أستاذ كيف أقول بالأنكليزية ـ المنضدة بيني وبينك؟” عندما علمته كيف يقولها راح يرددها عدة مرات وفي اليوم التالي جائني في الصباح وهو يقول ” المنضدة بيني وبينك”. كان سعيداً جدا.

إنقضت السنة بشهورها القارصة البرد والقاسية الحرارة وجاء عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية. جائني عند بداية النهار وهو يقول ” أستاذ سادعوك اليوم إلى قطعة كبيرة من الكيك اللذيذ . سنأكلها عندما تنتهي السنة الميلادية أي بعد الساعة الثانية عشرة بدقيقة واحدة. المطلوب منك ان تحتفظ ببجزء قليل من قطعة الخبز التي يتم توزيعها لنا هذا اليوم. لقد وفرت قطعتين من الخبز وهي حصة طعامي لمدة يومين. قبل يومين توقفت عن تناول الخبز وأكتفيت بقدح الرز الوحيد كي أصنع لك قطعة من الكيك. جففت الخبز في الشمس وسحقته بقطعة من الطابوق وهو الأن بشبه الطحين الحقيقي. سأضع المسحوق مع السكر في الماء واسخنها حتى تصبح عجينة حلوة جاهزى للاكل ، سنقضي وقتاً جميلاً” .

قلت له :” لا أملك أي شيء من الخبز وسأحاول أن أقترض نصف رغيف من أحد الزملاء” . قال على الفور : لا تفعل ذلك سوف أتدبر الأمر. ” حاولتُ أن أقنعه بأنني سأتدبر الأمر بنفسي ولكنه رفض ذلك وأقسم بأنه سيفعل كل شيء بنفسهِ. تركته يفعل مايريد. سارت الساعات بطيئة كعادتها كل يوم. الوقت في الأسر ليس له قيمة ولا أهمية لمرور ساعة أو ساعتين قد نقضيها أما في النوم أو الجلوس كالمتسكعين عند حافة الجدار الخارجي للقاعةِ المرعبة ننظر إلى الأفق البعيد الممتد على طول البصر أو نقضي الوقت جالسين تحت الشجرة الوحيدة الجرداء ، أو قد يسير بعضهم يفكرون بأشياء خيالية لا تعد ولا تحصى.

مزيج من التداخلات اليومية التي تعصر ذهن المعذب في الأرض فتحيله إلى كومة من الركود والكسل. كل شيء في الأسر يحترق ويتلاشى في الأفق القاسي الممتد على طول الزمن. جاء الغروب وتراجعت الشمس مدحورة خلف المرتفعات الجرداء تحمل معها آهات البؤساء المحرومين من كل شيء. قرأتُ في إحدى الروايات ” أن أحلك الساعات هي التي تسبق بزوغ الشمس ” ولكنني الآن أخالف هذه العبارة وأعترض على كاتبها ففي قبور الأحياء فأن أحلك ساعات النهار هي التي تسبق ساعات حلول الظلام أي عند حلول الغسق. أنا بالذات أشعر بالاختناق وأتمنى أن لا يأتي الغسق أبداً ولطالما ذرفتُ دموعاً عند تلك الساعات. هذا الوقت يحطم الأعصاب ويحيل الذات إلى كومة من الرماد. عندما ندخل القاعة عند الغروب تلفحنا رائحة الأجساد النتنة ورائحة الأسرّة المرعبة وضوضاء الأسرى وهم يتهيئون للعشاء أو الصلاة. نشعر أن الأرض تكاد تطبق شدقيها علينا لتحيلنا إلى جماجم ملقاة على قارعة الطريق.

كم أن حلول الغسق مرعب هناك. من بعيد أسمع صوت طائرة تحلق في السماء . أتخيل ركابها الآن وهم يتناولون قطعا من الكيك اللذيذ مع بعض المشروبات الخفيفة أو يضعون رؤوسهم باسترخاء على المقعد الوثير يحلمون بأشياء رائعة أو يستمعون إلى موسيقى حالمة تخرج من مكبرات الصوت المعلقة في سقف الطائرة . كنت أشاهد تلك الطائرات من النافذة القريبة من سريري في الطابق العلوي وهي متجه إلى المطار. كلما شاهدت طائرة أبقى فترة من الزمن أحلق مع ذكرياتي المنسية التي صدئت وأحاطت بها هالة من الغبار وسيطرت عليها خيوط عنكبوتيه .

بعد تناول العشاء ــ الذي لايمكن إطلاق عليه صفة العشاء وإنما وجبة التعذيب النفسي من حيث الكمية والنوعية ــ جلستً فوق سريري أنظر نحو الأجساد البشرية المرهقة التي استقرت فوق أسرّتها ملتمسة جزءاً يسيراً من راحةٍ وهميةٍ . جاء ” سطام” وقد ظهرت على وجههِ علامة انشراح دفين على الرغم من اصفرار وجههِ وضعف هيكلهِ العام بسبب المعاناة اليومية وقلة الطعام . رفع يده من وسط القاعة المزدحمة بالأجساد المتحركة مشيراً إليّ بالنزول من سريري كي نسير وسط القاعة حسب التقاليد اليومية . نزلتُ بتثاقل وكأنه إجتثني من أحلامي الوردية لأعود إلى عالم الواقع المرير. تصافحنا كما نفعل كل مرة نلتقي فيها. إبتسم بسعادة وهو يقول ” أستاذ ، لقد أتممتُ كافة التحضيرات اللازمة لإقامة الاحتفال بمناسبة عيد الميلاد ورأس السنة . طحنتُ ثلاثة أرغفة يابسة واستخدمت طابوقة كبيرة لهذا الغرض. سنقضي وقتاً مميزاً هذه الليلة “. كانت عادة بعض الزملاء في مثل هذا اليوم يُحضّرون بعض الأشياء وينتظرون حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً ويقوم أحد الزملاء وأسمه ” علي دولي” بإطفاء النور الضعيف لمدة دقيقة واحدة ويصرخ بأعلى صوته ” كل عام وانتم بخير” . كنا نذرع القاعتين المتصلتين مع بعضهما البعض ذهاباً وإياباً نخترق الجموع الكثيرة التي تسير من قاعةٍ إلى أخرى للترويح عن أنفسهم قبل النوم. بعد العشاء تزداد القاعتين ضجة ويشعر المرء وكأنه يسير في سوقٍ قذر مزدحم بالمارة.

سمعتُ قصص حياة كل الموجودين معي وبدأتُ اعرف تفاصيل دقيقة عن حياتهم الشخصية. الغريب أنني أصبحتُ مثلهم وقصصتُ عليهم جزءاً من حياتي. قال سطام وهو يسير إلى جانبي ” الساعة الآن التاسعة ليلاً ، سنتناول الكعكة في الساعة الثانية عشرة ودقيقتين”. نظرتُ إلى الساعة الجدارية القديمة وقلت بأضطراب” لماذا لانتناولها الآن ومن ثمَ نذهبُ إلى النوم؟ ضحك سطام بأعلى صوته وهويقول بسعادة ” إسمع يا أستاذ، لقد إتبعتُ كافة توصياتك حول التعليم وأشياء أخرى ولكنني سوف أعصي توصياتك هذا اليوم فقط. حاول أن تتحمل ثلاث ساعات وبعدها ستأكل حتى التخمة. هذه فرصة لايمكن تعويضها.هذه أول مرة أفكر في السنة الجديدة وعيد الميلاد. في هذا المكان تعلمت منك أن العالم يحتفل بمثل هذا اليوم . كان هذا الحدث يمر دون أن يخطر على ذهني. عندما أعود إلى الأرض الطيبة سأحتفل كل عام مع زوجتي وأبني بهذه المناسبة وقدأسافر إلى بغداد كي أحتفل بها معك . أنا جائع مثلك ولكن فلنجعل هذه الليلة تختلف عن الليالي الأخرى التي نعيشها في هذا المكان” . شعرتُ بالحياء من نفسي. عاد الصمت يلفني من جديد . كان الفتى يحاول أن يجعلني أضحك بشتى الوسائل من خلال الفكاهات والطرائف التي يذكرها لي. فجأةً راح يقول ” إستاذ تصور أنك الآن في مطعم اللاذيقية ــ الذي حدثتني عنه سابقاُ ــ في العرصات وأمامك طبق كبير من القوزي والتمن وأنواع مختلفة من المرق وطبق كبير جداً من المقبلات وإلى جانبك فتاة جميلة جداً….ماذا تفعل؟ نظرتُ اليه وقد إرتجفت كل عضلة من عضلات جسدي ولاحظ بريق عيناي الجاحظتين . شعرتُ أن السائل الخاص بالفم بدأ يتحفز للخروج وأحسستُ أن معدتي بدأت تتحرك صارخة للحصول على أي قطعة من أي مأكول لسد الفراغ الشاسع فيها . قلتُ بتحسر كبير ” لماذا تحاول تعذيبي بهذا الحديث الذي لايمكن تحقيقه حتى في الأحلام؟” . ضحك بأعلى صوتهِ ضارباً على ركبتهِ بيدهِ اليمنى شاعراً بمدى الشوق الشديد لتناول أي شيء في تلك اللحظة . قال بعدها بجدية مفرطة ” أنا متأسف جداً يا أستاذ ، إن تعذيبك هو آخر ما أفكر فيه . أنا مستعد للموت من أجلك. لقد منحتني شيئاً لايمكن أن يهبني إياه حتى والدي. لا أعرف كيف أُجازيك. أتمنى أن أملك أي شيء الآن كي أقدمه لك عرفاناً للجميل الذي فعلته من أجلي. أشعر بالخجل الآن لأنني لا أملك أي شيء ثمين أقدمه لك” .

قلتُ له على الفور ” لا أريد أي شيء منك ليس الآن ولكن في المستقبل . كل ما أريدهُ منك هو الأحترام وليس شيء آخر غير الأحترام وأن تتذكرني حينما نفترق يوماً ما . لا تتكبر عليّ حينما تراني في الشارع وأنت تقود سيارتك الفارهه. لا أريد منك شيئاً سوى أن ترفع يدك ملقياً إلي التحية. نظر إليّ بذعر وكأنه يحتظر وأندفع يقول ” لا يفعل هذا إلا من كان إبن زنا. أنا أعتبرك المنقذ لي من محيط الجهلِ العلمي الذي كنت أتخبط فيه….أنا لا اقبل حتى الفرضية القاسية التي تتهمني بها . ستثبت لك الأيام ما اقول. ” صمت قليلاً ثم أردف يقول بحزنٍ ممزوج بسعادة دفينة ” قبل عام كنتُ أفكر مع نفسي ماذا سأفعل في المستقبل حينما يُطلقون سراحي ؟ كنتُ أُخطط لشراء شاحنتين أو أكثر وأُمارس مهنة التجارة ونقل البضائع بين عمان وبغداد وبقية الأقطار القريبة. ولكن الآن لقد تغير تفكيري تماماً . ” حاولتُ أن أشاركه الحديث وأغير الموضوع ولكنه قاطعني قائلاً ” حينما أعود سوف أُنشأ مكتبة كبيرة جداً في مدينتي وأملأها كتباً من كافة أنحاء العالم وأكون مديراً لها. أبيع وأشتري الكتب . سأقضي كل ساعات النهار في المطالعة. قبل سنة لم أكن أعرف إسم أي كاتب عالمي أو عربي أو حتى عراقي لأنني كنت في عالم آخر. عن طريقك أصبحتُ أعرف ــ دي .أج. لورانس. جالز ديكنز. تنيسون. البرتومورافيا. سمويل بيكت. أحسان عبد القدوس. نجيب محفوظ. عبد الحميد جودة السحار. المنفلوطي. عادل كامل. فاضل ثامر. غادة السمان . وغيرهم. عرفتُ أسماء روايات لو لم تكن أنت معي لما عرفتها أبداً. كيف تقول بأنني سأشيح بوجهي عنك حينما أراك في الشارع يوماً ما؟ لقد خلقتَ مني إنساناً آخر.”.

يتبع ……

أحدث المقالات