19 ديسمبر، 2024 12:06 ص

عندما يتكلم الجندي المجهول – 14

عندما يتكلم الجندي المجهول – 14

الحلقة رقم – 14 –
رجعتُ إلى زنزانتي المنعزلة المرعبة. هنا في هذا المكان المنعزل عن الحياة والناس وكل شيء ينتمي إلى العالم تتكون حياة أخرى ومعاناة أخرى وأحلام لا تنتهي على الرغم من وجود المكان في مكانٍ لا أعرف أين في هذه البقعة من العالم. كانت روحي ترتجف وكل عصب من أعصابي يعزفُ لحناً خافتاُ مأساوياً في جوٍ سيطرت عليه كل معاني اليأس والقنوط. شعرتُ أن الزمن توقف عن الدوران ولم يعد للوقت قيمة تُذكر على الإطلاق. لم يعد لشروق الشمس أهمية ولم يعد لساعةِ الغسق من وجود فكل شيء مظلم يُشير إلى عزلةٍ تامة. الروح تسبحُ في بحرٍ هائج من الذكريات المريرة البعيدة التي تُزيد الطين بلّه في إحتراق الذات ولهيب المعاناة. ( الصمت…الصمت…الصمت..) يالهذه الكلمة المرعبة في هذا الوجود البعيد كل البعد عن الإنسانية. لا وجود للحياة في الزنزانة حتى أسمي لم يعد له شيءٌ يُذكر فقد تحولتُ إلى مجرد رقم كأي رقمٍ كنا ندرسهُ في رياضيات المدرسة الابتدائية والمتوسطة والإعدادية. ثلاثة عشر شهراً لم أسمع أي شخص ينادينني بأسمى. حينما يدعونني للتحقيق لا أسمع إلا ذِكر الرقم (………) كلما سقط الشريط المُثبت على الجهةِ اليُسرى من صدري حيث الرقم الذي أصبح أسما لي كانوا يسارعون إلى تثبيت شريطاً آخر يحمل نفس الرقم الذي يُميزني عن بقية الأسماء .الصمت كان من أشد أنواع التعذيب النفسي الذي واجهته خلال فترة وجودي في الزنزانة.

لايحق لأي أحد أن يُصدِرَ صوتاً حتى لو كان يصلي. كانت الأيام والشهور تمر في الزنزانة واحدة متشابهه. لا يعرف المرء الصباح من الظهر أو المساء من الليل.الجو واحد والضوء واحد والعزلة واحدة والصمت واحد. تصور صديقي القاريء أن تكون صامتاً لوحدك لمدة سنة وشهر. تجلس وحيداً في نفس الزاوية المظلمة لا تعرف شيئاً عن الشمس ولا تشاهد القمر ولاترى النجوم ولا تسمع صوت طفل أو أي شيء آخر. كيف ستكون الحالة النفسية التي يعيشها المرء في وسط كل هذا الضياع وهذا الرعب الذي لا ينتهي أبداً؟ حينما كنتُ في بلد العشق والجمال في بلد الربيع …كنتُ أشعر بالملل إذا تكرر سماع أغنية جميلة أو تناولتُ طعاماً واحداً لمدة يومين أو حينما أنتظر ربع ساعة في محطة الباص..فبماذا أشعر الآن وتتكرر عليّ الساعات والأيام والشهور المرعبة وأنا أجلس لوحدي في الزاوية اليسرى من تلك الزنزانة الصغيرة.؟.

في اليوم الثاني لتواجدي في عالم الضياع شعرتُ أن ناراً محرقة تلتهب تحت جلدي لدرجة أن الصداع لم يُفارقني لحظةٍ واحدة. كنتُ أدور في الزنزانةِ كالذئب الجريح كي أُسيطر على حالة الرعب والارتباك والخوف التي سيطرت على روحي …كلما تطلع الحرس نحوي من خلال العين السحرية الصغيرة المثبتة في الباب الحديدي وشاهدني أتحرك داخل الغرفة وأدور كالناعور صرخ بأعلى صوتة طالباً مني الجلوس وعدم الحركة. أجلسُ مرعوباً لأن عدم تنفيذ أوامرهُ معناه الخروج والجلد بالسوط أو الوقوف خارجاً على قدمٍ واحدة حتى الانهيار. كنتُ أستمع إلى خطوات الحرس عندما يسحب قدميه على الأرض. حينما يبتعد أنهض بسرعة وأبدأ بالسير بطريقةٍ دورانية سريعة في تلك المساحةِ الضيقةِ من الغرفة الصغيرة، وحينما أشعر بدنو صوت حذائهِ اجلسُ وأتظاهر بإطاعة الأوامر. وتبقى هذه الحالة تتكرر حتى أشعر بالإعياء أجلس عندها في الزاوية كأنني حيوان مصاب بالجذام ولم تعد لديه القدرة على الحركة. في اليوم الثالث من تواجدي في أرض الخوف وبسبب التفكير الكثير والاحتباس النفسي الشديد شعرتُ بحكةٍ شديدة في باطن الفخذ الأيسر، في البداية لم أهتم للأمر واعتقدت أنهُ شيء طبيعي. في اليوم اللاحق شعرتُ بألم وحرقة. أعلمتُ الحرس بحالتي الصحية وبعد مداولات ومناقشات أحياناً لا أفهم مايريد مني وأحياناً هو لايفهم ماذا كنتُ أقول له أضطر ّ إلى مرافقتي إلى طبيب المعتقل كي يتخلص من مسؤولية عدم الإبلاغ عن حالةٍ مرضية أثناء فترة حراسته. أبدى الطبيب الشاب اهتماما كبيراً حينما شاهد حالتي المزرية بكل مقاييسها وقدم لي علاجاً جيداً وحقنني بحقنةٍ سببت لي ألماً كبيراً.

من جرّبَ الزنزانة في أي بقعة من العالم يفهم تماماً ما تعنيه هذه الغرفةِ الصغيرة. تحدث حالات عجيبة أثناء العزلة والعيش وحيداً. أنا شخصياً لم أفهم تلك الحالات إلا بعد أن عِشتُ فيها واكتويت بنارها. مثلاً بدأتُ أتحدثُ مع نفسي ــ أحياناً بصوتٍ مرتفع وأحياناً يستلم ذهني إشارات مختلفة لمواضيع لا تُعد ولا تُحصى. أبقى أرسم الخطط لمواضيع قد تبدو خيالية لو سمعها شخصٌ ما. أحياناً أصل إلى مرحلة التفكير والتركيز والتخطيط لدرجة أنني أصبح لا أشعر بوجود أي شيء . أبتسم أحياناً ، أُقطبُ حاجباي أحياناً أُخرى، ..أفرح..أغضب…أثور..أهدأ…وأشياء أخرى تبدو للعيان علامة من علامات الجنون وهلوسة وانفصام للشخصية. أحياناً أتحدثُ مع نفسي بصوتٍ مرتفع كي لا أفقد صوتي لأن الصمت الطويل قد يجعلني غير قادر على الكلام مرة أخرى. كانت هناك طريقة أخرى أتبعتها لقضاء الليالي الطويلة التي ليس لها نهاية. بعد وجبة العشاء من كل ليلة أستلقي على الجهةِ اليسرى ثم أبدأ بترتيب البطانية التي أنام فوقها وكأنني أرتب صفحة كبيرة من الورق. أستخدم السبابة اليمنى كقلم ــ أقصد أتخيلها قلم ــ ثم أبدأ بكتابة قصة طويلة باللغة الانكليزية. أحياناً أحذف أو أمسح العبارة أو الكلمة بيدي وكأنني أستخدم ممحاة حقيقية.أنفعل لتزايد الحدث القصصي وأتأثر للتصاعد المستمر في أحداث الرواية. كنتُ أستخدم هذه الطريقة ساعاتٍ طويلة إلى أن أشعر بأن أصبعي يكاد يتمزق من شدة الألم ومن شدة ضغطي على الصفحةِ الوهمية.أحياناً كنتُ أشعر بأن عيناي تكادان تخرجان من مواضعهما فقد كانت تحدث ما يشبه الشرارة الكهربائية الصادرة من مقلة العين. في بعض الأحيان وعندما يتقدم الليل الذي لا يوجد أي مؤشر لانجلائه، كان الحرس يفتح النافذة الصغيرة المثبتة على الباب الحديدي وينظر إليِّ مندهشاً من جراء تلك الحركات السريعة لأصبعي ولِما أقوم به من حركة لا تعرف الكلل والملل. أحيانا كان يتركني أفعل ما يحلو لي وأحياناً أخرى يصرخ بصوتٍ بشع مستفسراً عما أقوم به. حينما أؤكد له من عدم وجود شيء ذو أهمية يغلق الفتحة الصغيرة وهو يدمدم بأشياء لم يعد لها أهمية فيما إذا كانت ضدي أو ضد أي شخص أخر في الوجود.

حينما أشعر بالتعب أضع ( القلم الوهمي) جانباً ثم أنفخ سبابتي اعتقادا مني أن ذلك العمل يزيل الألم على أملٍ أن أكمل القصة في اليوم التالي. عندما أستلق على ظهري طلباً للراحة يكون المصباح المثبت خارج الغرفة قد أسقط شعاعه على عينيَّ المرهقتين. عندها لا أستطيع النوم لأن ضوءه المباشر يقض مضجعي. أُثبت قطعة القماش السميكة فوق وجهي كساتر مؤقت لحجب الضوء المزعج بَيْدَ أن الحرس يفتح النافذة ويصرخ طالبا مني عدم وضعها فوق وجهي. لو كتبتُ آلاف الصفحات عن تلك الزنزانة المرعبة لما استطعت الوفاء بوعدي لنفسي بتسطير كل حركة قمتُ بها هناك. ومع ذلك سأحاول أن أستذكر بعضاً من تلك المعاناة كي تكون شاهداً على العصر وتاريخاً بائساً لشخص ألقت به الظروف في جحيمٍ لا ينتهي ولم يكن قد أرتكب أي حماقة سوى أنه درس مادة اللغة ألإنكليزية يوماً ما وكانت سبب كل آلامهِ في فترةٍ مرعبة من تاريخ هذا العالم المشبع برائحة الخوف والدمِ في كلِ زمانٍ ومكان. في اللحظةِ التي دخلتُ فيها تلك البقعة البعيدة عن العالم فكرتُ بضرورة الحفاظ على التاريخ اليومي وتسجيله بأي طريقةٍ ممكنة كي لا يضيع عدد الأيام وأبقى كالتائه في الظلام. نظرتُ ذات اليمين وذات الشمال داخل الزنزانة فوجدتُ أن الحائط الأصفر المرتفع أملس جداً لا يمكن الكتابة عليهِ بأي شيء وحتى لو كانت هناك إمكانية الكتابة فكيف سيتم ذلك؟ ليس لديّ شيء أخطُ به على الجدار. دون وعي نظرتُ إلى الجهات السفلى للحائط فوجدتها تختلف نوعا ما عن بقية الجدار.

تحسستهُ بأصابعي فوجدتُ أنه يصلح للكتابة. لكن كيف أكتبُ عليه؟ خطرت على ذهني فكرة استخدام ( قطعة التربة الموجودة للصلاة). بسرعة البرق أزحتُ جزءاً من البطانية التي اتخذتها فراشاً وكانت تغطي جزأً من الحائط السفلي. أنهيتُ الشهر الأول ثم شرعتُ برسم بقية أشهر السنة بدقة متناهية حتى أتممتُ السنة بالكامل. رحتُ أضع علامة(×) على كل يوم يمضي. حينما كان العقيد المسؤول عن التحقيق معي يشاهد أنني أضع اليوم والشهر والسنة بدقة في نهاية كل ورقة أكتبها كان يُصاب بالدهشة ويسألني كيف لي أن أعرف ذلك؟ كنتُ أخبرهُ بأنني أتخيل ذلك. أصعب أيام حياتي في الزنزانة كانت بعد وجبة العشاء حيث أظلُ جالساً وحيداً أستعيدُ ذكرياتي في الزمن الماضي السحيق حيثُ تبدأ الأفكار والمشاريع تتقاذف في رأسي …أُخطط لهذا وأرسمُ لذاك إلى أن يبدأُ رأسي بالدوار وأشعرُ بآلامٍ لاتطاق. الصمت….الصمت..الصمت..آه من الصمت المخيف الذي يُسيطر على كل زاوية من زوايا الذات. من بعيد اسمع طرقاتٍ واهنة على الجدار الآخر للزنزانةِ المجاورة. كل واحد يحاول أن يرسل إشارة إلى جارهِ في محاولةٍ بائسةٍ يائسةٍ للخلاص من عذاب الصمت. في أحدى المرات سمعتُ طرقاتٍ خفيفة على الجدار الأيمن لزنزانتي. أصغيتُ السمع. أجبته بطرقاتٍ بأصابعي. كلما ضربتُ على الجدار كان جاري يُجيبني بنفس الطرقات.

شعرتُ أن إنساناً ما عِبْرَ الزمن والتاريخ قد شعر بوجودي وأخذ يشاركني أحلامي ومعاناتي. كنتُ أنتظر نهاية وجبة العشاء كل يوم كي أبدأ بالاتصال مع ذلك الجار القريب البعيد جداً عني في نفس الوقت. يوماً بعد آخر توطدت العلاقة مع ذلك الجار الغريب والذي لا أعرف عنه أي شيء. يوماً ما سمعتُ صوتاً هامساً قريباً من الباب الحديدي. كان جاري ينادينني بصوتٍ هامس. سألني عدة أسئلة عامة وشخصية وعرفني عن شخصيته وكل شيء ولكنني لم أعطهِ أسمي الحقيقي لمسائل قد تكون في غير صالحي مستقبلاً. بمرور الزمن تكونت علاقة حميمة بيننا. سألني مرة فيما إذا كنتُ أملك سكائر أم لا. عندما أخبرته بأنني لا أملك أي واحدة، همس لي بأنه يملك ثلاث سكائر ورسم لي طريقة لتسليمها لي. قال” سأخرج الآن بحجة إصابتي بإسهال وسوف أضعها فوق الجدار الأخير للمرافق الصحية ..حاول أن تخرج بعد عودتي…..أي حينما تسمع صوت إغلاق الباب خلفي”. فرحتُ جداً لذلك المقترح وقلتُ دون وعي:” بوركتَ أيها الفتى المجهول تماماً بالنسبةِ لي”.تمت العملية بنجاح فقد وجدت السكائر في نفس المكان الذي كان قد وصفهُ لي.بعد ساعة سألني فيما إذا كان لديَّ ” قند” أم لا؟ وحينما أجبته بالنفي أخبرني بأنه سوف يتبع نفس الطريقة التي كان قد سلكها في قضية السكائر. وتمت العملية بنجاح. بعد يومين لم أعد أسمع أي طرقات على الجدار بعد العشاء ولم يعد حميد أبو فيصل يتكلم مطلقاً.لم يعد يهمس لي عند الباب الحديدي. شعرتُ بضيق شديد. كان الشخص الوحيد الذي يعيد لي الحياة كل ليلة. عادت الكآبة تسيطر على قلبي من جديد. حاولتُ أن أنغمس في قراءة القرآن وأحفظ أجزاء كثيرة منه. وكانت الفكرة جيدة فقد كنتُ أقض ِ ساعات طويلة في حفظ ماتيسر لي عن ظهر قلب. في يوم من الأيام شعرتُ أن عيناي قد تأثرتا كثيراً. لم أعد أستطع قراءة سطر واحد. كلما فتحتُ المصحف شعرتُ بألم شديد جداً في رأسي ووجدتُ كافة الأسطر تتراقص أمامي بشكل مخيف. إعتقدتُ أنني لن أتمكن من القراءة مرة أُخرى وهذا أكثر ما كان يُرعبني . ضاقت بيَ الأرض وطالت عليَّ الأيام. كانت قراءة القرآن هي الوسيلة الوحيدة التي كنتُ أتغلبُ بها على همومي وأخترقُ من خلالها جدار الصمت والقلق. وبحثتُ عن وسيلةٍ أُخرى كي أقض ِ بها وقتي الممل. وأرسل الله سبحانه وتعالى لي عدة ( نملات). كانت تلك الديدان الصغيرة تخرجُ من الزاويةِ اليُسرى القريبةِ من الباب الحديدي. كنتُ أُراقبهن بسعادةٍ لا توصف وأتحدثُ معهن أحاديثاً طويلة. كنَّ يخرجن في تناسق عجيب كان الخالق العظيم قد رسمها بطريقةٍ دقيقة.كُنَّ يبحثنَ في تواصل دؤوب عن قطعة فُتاتٍ سقطت هنا أو هناك، ولكن أنىّ لهن أن يجدن في هذه الزاوية الكونكريتية شيئاً من هذا القبيل؟ ولكن حاشى لله أن ينسى مخلوقاً من مخلوقاتهِ مهما صَغُرَ حجمه. دون وعي رحتُ ــ وبسعادةٍ تامة ــ أضع في كل وجبة حبة أو حبتين من الحمص عندما أستلم وجبة غذائي وأبقَ أُراقبهن بنشوةٍ عارمة وهن يتدافعن من أجل تفتيتها وتهشيمها إلى ذراتٍ صغيرة كي يتمكنَّ من حمل المؤونة بسهولةٍ تامة. سبحان الله، لقد قَدِمْتُ من بلادٍ بعيدة وجعلني الله أُطعم تلك النملات كل يوم على مدى أشهرٍ طويلة. تباركتَ ياخالق الأرضِ والسماء، تباركتَ يامن تَرْزِقُ ولا تُرزَق. وجدتُ أن التعمل مع الديدان لا يُشغل كل وقتي ويُنسينني ألمي من شدة الشوق للقراءة. بدأتُ أخترع طريقة أخرى لقضاء الوقت الطويل. بدأتُ أغسل ملابسي كلما ذهبتُ الى الحمامات. أقفُ تحت الدوش دون نزع ملابسي …أعصرها بسرعة ومن ثم أرتديها وحينما يسألني الحرس عن سبب ذلك العمل كنتُ أقول له بأنني مُصاب بحساسية وأحتاج إلى ترطيب ملابسي كي تهدأ الحرارة المشتعلة في جسدي. في البداية لم يًصدق ذلك ولكنه حينما شاهدني أفعل ذلك عدة مرات تناسى أمري ولم يعد يُكلمني عن هذا الأمر. في اللحظةِ التي يغلق فيها الحرس الباب الحديدي أنزع السروال والقميص وأبقى في الملابس الداخلية …أفتح ساقيّ في زاويةٍ عريضة وأبدأ بتحريك السروال ذات اليمين وذات الشمال بطريقةٍ سريعةٍ وأحسب الى العدد خمسمائه. إكتشفتُ أنني حينما أصل إلى هذا العدد يجف السروال تماماً. أرتديه ثم أفعل نفس الشيء مع القميص. بعدها أجلسُ على الأرض منهك القوى كأنني كنتُ أركض مسافاتٍ بعيدة. بقيتُ أفعل هذا الشيء بالأضافة إلى إطعام الديدان فترة لابأس بها من الزمن إلى أن عادت حالتي الطبيعية وبدأتُ أستطيع القراءة من جديد. عندما كنا نخرج ــ هوا خوري ــ أي الخروج الأجباري إلى المساحة الضيقة القريبة من الزنزانة ونحنُ معصوبي الأعين كان بعض الحراس الذين يرافقوننا إلى الفناء يفعلون بعض الأشياء الأستفزازية محاولين تحطيم بقايا المعنويات الكامنة في نفوسنا فقد كان بعضهم يضع قدمهِ أمام السجين عندما يمر عبر الرواق الطويل الضيق كي يجعله يسقط أرضاً ويضحكوا عليه. كان البعض ألأخر من الحراس يحاولون ضرب المعدة بالأصابع الممدودة كي يصدر السجين صوتاً يجعلهم يضحكون ويتندرون عليه. في إحدى المرات حينما مررتُ من أمام أحدهم ضربني في بطني وكانت أصابعه قوية لدرجة أنني إعتقدتُ أنها قد نفذت إلى داخل معدتي ولكنني لم أصدر أي صوت فقد كنتُ متهيأً له وضربني مرة أخرى وفي النهاية قال ” جيد جداً”. في صباح اليوم التالي إقترب مني وهو يحمل ” مقراضة أظافر” قرصني بها في كتفي. أحسستُ وكأن قطعة من جسدي سوف تتمزق ولكنني صرختُ بأعلى صوتي ” الله أكبر ..الله أكبر” إرتعب وتراجع مذعوراً وكأن شرارة كهربائية قد لسعته. منذُ تلك اللحظة لم يعد يقترب منا أي احد. كانت المساحة الضيقة هي المتنفس الوحيد لنا لأستنشاق الهواء البارد الثلجي ونحنُ لا نرى أي شيء.

كنتُ مرتبكاً في البداية أثناء سيري في تلك المساحة الممتدة بين جدارين شاهقين .عيناي مُسمرتان في الأرض كي أرَ إلى أين أنا سائر؟ أحصيتُ عدد القطع الكونكريتية المسموح لي بالسير فوقها فوجدتها أربعة فقط. عندما أصل إلى نهاية القطعة الرابعة يجب عليّ الأستدارة إلى الخلف فوراً وهكذا أفعل حينما أصل إلى نهاية القطعة الأولى في حركة مكوكية كأنني حمارٌ مسكين يسحبُ ناعوراً قديماً كي يُخرجَ ماءاً من بئر ٍ نتن ليسقي أرضاً ليس لها وجود. بمرور الزمن تعودنا على تلك الحالة. بالنسبةِ لي أصبحت لهذه المساحة الضيقة من الفضاء المفتوح خصوصية . أصبحت مرتعاً للأفكار والأحلام وأجراء الحوارات الذاتية مع الذات. أكثر ما كان يؤلمني ويقظُّ علي خلوتي في تلك المساحة الضيقة …رائحة الطعام…آه ..من رائحة الطعام. كنتُ أسمعُ صوتاً قادماً من مسافةٍ قريبة . كانت تنبعثُ من مكانٍ ما رائحة الدجاج المقلي التي بقيتُ أحلمُ بها وأُ منّي نفسي بتناولها يوماً ما طيلة أحدَ عشرَ عاماً. بدأتُ أُميّز رائحة كافة الأطعمة التي تُطبخ للأسرى المساكين. هذا اليوم سيكون رز مع سبزي ، ويوم آخر سيكون رز فقط وبعدها سيكون مرق فقط وهكذا دواليك. إستمرت هذه الحالة طيلة فترة بقائي في الزنزانة. بدأتُ أشعر بتواتر الفصول من خلال الشمس القليلة التي تسقطُ فوق رأسي من تلك الفتحة الصغيرة المُطلة نحو السماء. اليوم أصبحت الشمس لطيفة وهذا يعني أن الشتاء طفقَ ينحسرُ ويُلملمُ أذياله كي يرحل ، وبدأ الربيع يغرسُ بذورهُ الناعمة في الأفق. أما هذا اليوم فقد بدأ الربيع يتراجع مذهولاً أمام الصيف لأن الشمس أصبحت حارة جدا, وأخيراً عاد الشتاءُ من جديد وبدأت السماء ثنثر رحمتها على الأرض وتوعد الفلاحين بسيلٍ من المياه التي تُغرِقُ الأرض العطشى في كلِ مكان. كانت الأيامُ تمضي وتليها الأسابيع والشهور وأنا أتحدثُ مع ذاتي كأنني أُخاطبُ شخصاً يسيرُ إلى جانبي. أصعبُ شيءٍ عرفته وتعلمتهُ من خلال تلك الزنزانة …هي أن الأنسان يمكن أن يتحمل أي عذاب في الأرض عدا عذابُ العزلة والصمت والسكون والسكوت. لقد تبادر إلى ذهني حكمة بسيطة تعلمتها من والدتي رحمة الله عليها وهي ” أن الجنة لايمكن تحملها حينما يكون الأنسان وحيداً”. حقاً أن الفردوس يصبح تعيساً حينما يعيش الفرد لوحده بعيداً عن الآخرين. لوتوفرت لي أشياء بسيطة في تلك الزنزانة لأصبحتُ عبقرياً من عباقرة التاريخ. لو كانت لدي كل الروايات الصادرة في عام واحد لقرأتها جميعاً. لو كان لديَّ مجلد لكلِ حروب التاريخ الكوني لقرأتها جميعاً. لو كان معي إنسان يتكلم لغةٍ لا أفهمها ولتكن لغة إنسان ما قبل التاريخ لحفظتها عن ظهرِ قلب. الحمد لله الذي رزقني بكتاب القرآن وبدأت أحفظ أجزاء متعددة عن ظهرِ قلب ، لكن العزلة التامة عن أي إنسان كانت تصيبني بالكآبه الحادة أحيانا إضافة للجوع الشديد والرغبة لسيكارةٍ واحدة عند الطلب. كل هذه الأسباب كانت تمنعني من مواصلة القراءة على طول الزمن.

يتبع….