عندما يحاول الكثيرون ، بدون حق، ان يلبسوا عباءة الاقتصاد ويتحدثون وينظّرون في علم الاقتصاد ، فأنهم يجازفون بارتكاب اخطاء كبيرة.
الاقتصاد كعلم لايشبهه علم آخر لانه علم الحياة وهو الذي يؤثر في السياسة والحياة العامة بكل وجوهها . انه يرسم طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية ويحدد مراكز القوة في المجتمعات ضمن البلد الواحد وكذلك يحدد القوى المهيمنة في العالم ..
ضمن خارطة التأثير هذه تدخل مراكز القوة المختلفة محاولةً التلاعب بثوابت علم الاقتصاد لكي تقدم لنا
” علم اقتصاد فيه الكثير من الايديولوجيا” خدمة لمصالح معينة شخصية او دولية واستراتيجية..
آدم سمث يعتبره الكثيرون المؤسس الحقيقي لعلم الاقتصاد بسبب ما يتضمنه كتابه الشهير : ثروة الأمم ، الذي وضع فيه قواعد علم الاقتصاد وصاغ مفاهيمه الاساسية..
يدعو سمث في كتابه هذا الى الحرية الاقتصادية التامة والى حكومة صغيرة لها وظائف محددة تتعلق بالأمن والادارة …واعتبر ذلك شرطاً اساسياً للنمو المضطرد للاقتصاد ..
واعتبر التوزيع ( توزيع ثمار العملية الانتاجية) بين كل عناصر الانتاج المساهمة في عملية الانتاج وهي : العمل وراس المال والتنظيم والموارد الطبيعية ، عملية شرعية وسليمة باعتبارها ساهمت كلها في الانتاج.
مع انه كان من كبار الاخلاقيين وكان استاذاً في علم الاخلاق..
لكن تلميذه ديفيد ريكاردو خالفه في ذلك وقال ان العمل البشري هو المصدر الوحيد لخلق الفائض وان العناصر الأخرى تتقاسمه مع العمال، تعرض لانتقادات لاحصر لها من قبل رجال الاعمال واصحاب البنوك وعموم الطبقة الرأسمالية باعتباره خللاً في التحليل وانه قال كلاماً لايمكن اثباته. وازدادت الهجمة ( التي لازالت قائمة لحد الآن) عندما تبنى كارل ماركس نفس وجهة النظر القائلة ان العمل مصدر القيمة وان عناصر الانتاج الأخرى تستحوذ على جزء مهم منها مدعومة بالتشريعات والمؤسسات الحكومية التي جاءت بها الرأسمالية .
وقال ماركس عن ديفيد ريكاردو انه : استاذي وملهمي ..
اضطر ريكاردو ربما بسبب الضغوظات الواقعة عليه من قبل المؤسسات ان يضيف الى كتاباته اضافات مبهمة تعطي الحق لعناصر الانتاج الأخرى في الحصول على حصص من الفائض المتولد ( فائض القيمة) ..
الرجل قال ان هنالك تنازعاً مستمرا على عملية تقسيم الفائض بين العمال والرأسماليين وملّاك الاراضي ، ولم يدعُ الى حرمان الرأسماليين وملّاك الاراضي من حصصهم !! وبذلك فهو يختلف عن سمث الذي قال ان هذا التوزيع يتم بشكل ودّي نتيجة الفطرة الطيبة للبشر !!! التنازع لم يكن مسموحاً بالحديث عنه …
مع العلم ان النظرية الموضوعية في القيمة التي تقول ان القيمة تتحدد بموجب كمية العمل المبذول في انتاجها ، جاء بها قبلهم ابن خلدون في كتابه المعروف والذي قال فيه ان العمل فقط هو من يخلق القيمة الاضافية..
وكذلك تعرض جون ستيوارت ميل الى نقد لاذع واتهموه بالاضطراب نتيجة وفاة زوجته الشابة !! لانه قال انه اشتراكي ، مع انه يؤمن بنظرية سمث بالتوزيع ….ولكن يبدو انه كان يؤمن بتوزيع اكثر عدالة !!!
وعندما انهارت النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد ( والتي يعتبر سمث وريكاردو ومارشال مصادرها الاساسية) عند حصول الكساد العظيم في الثلاثينيات، وعجزت عن تقديم الحلول ، ظهر الفكر الكنزي الذي يدعو الى تدخل حكومي كبير ( عكس ما اراده الكلاسيك) ودعى الى اعادة توزيع ( وليس التوزيع الاساسي) تقوم به الحكومة لانعاش الاقتصاد ..ولازال الفكر الكنزي يحكم السلوك الاقتصادي للحكومات في الدول الرأسمالية ..
والى اليوم تَعتبِر المنظمات المالية والاقتصادية الدولية ان صغر حجم الحكومة من الشروط الاساسية للنمو ويعتبرون ذلك معياراً لتقسيم الدول حسب درجة الحرية الاقتصادية..( تعتبر الولايات المتحدة ونيوزيلندا وهونغ كونغ في مقدمة دول العالم من حيث الحرية الاقتصادية).
مقابل هذا الاصرار ذو الطابع الايديولوجي على إضعاف دور الحكومات ، انهم يتجاهلون نموذجاً ناجحاً في النمو تقوده الدولة وهو النموذج الصيني !! حجم الحكومة الصينية هائل ولم يتقلص ابداً !!
لكن الاسباب الايديولوجية والصراع على النفوذ تجعل علم الاقتصاد ميداناً للتلاعب !!
لماذا لايُسمح بمراجعة الفرضيات القديمة ؟
لماذا ينبري الكثير من الاساتذة لادانة اللعنة التي اورثها ريكاردو القائلة ان العمل مصدر القيمة والتي يعتقدون ان ماركس اقتنصها !!
لماذا لايصار الى مراجعة الدور الحكومي في التنمية لاسيما في ظل أخفاقات نظام السوق المتعددة ؟
لماذا لاتوافق الاكاديميات الكبرى على مراجعة الاطر النظرية القديمة التي تحرّم دور الحكومة !!
لماذا لايوافقون على قبول الاختلاف في الظرف التاريخي الذي نشأت فيه الرأسماليات العريقة عن الظروف الحديثة التي تواجهها الدول النامية؟
بالطبع هنالك كتابات مستقلة عن ذلك لكن لا أحد يعيرها الاهتمام الذي تستحقه ..
اعود الى السادة الذي يتحدثون في الاقتصاد دون كفاءة ويظهرون على الشاشات ، ان الاقتصاد ميدان كبير وخطير وليس ميداناً للهواة ..