22 ديسمبر، 2024 2:38 م

عندما يأفل حزب الدعوة سيشعر كل العراقيين بالخسارة

عندما يأفل حزب الدعوة سيشعر كل العراقيين بالخسارة

الحقيقة ان قراءة أوراق حزب الدعوة الإسلامية الفكرية والعقدية والسياسية امر ليس باليسير يتطلب جهدا بحثيا يبدأ من مطلع القرن المنصرم، حتى عام 1957 حيث انعقاد اللقاء التاسيسي وتلاه عام 1958 لقاء في كربلاء يوصف بانه الاجتماع التاسيس الحقيقي، حيث لعبت الحاضرتان الدينيتان النجف الاشرف كربلاء دورا كبيرا في تشكيل وعي اسلامي شيعي تنازعه اتجاهان، اتجاه منغلق يحظر الانخراط في السياسة، واخر يرى ان اندماج الشيعة في محيطهم الإسلامي العام ويحتم عليهم الانخراط في حراك سياسي يوحد الامة على ثوابت لا يضر معها الاختلاف في التفصيلات المذهبية، وهذا ما بدأت الشروع في بحثه متوكلا على الله، ولكن لا بد من ان اجمل تصوري لدور حزب الدعوة من الانبثاق إلى ما يبدو انه افول لا اتمناه واسال الله ان لا يحدث.

ان ثمة قطبين شكلا فكر الدعوة الفقهي والحركي هما السيد الشهيد محمد باقر الصدر والشهيد محمد هادي السبيتي رضي الله عنهما، وهذا لا يعني الاستهانة بدور المؤسسين الاخرين، مثل السيدين محمد باقر الحكيم ومهدي الحكيم، والسيد مرتضى العسكري والسيد طالب الرفاعي والحاج عبد الصاحب دخيل والقاموسي والاديب والسيد شبر رضي الله عن الجميع، وحفظ الاحياء منهم، ففيهم المفكر والفقيه والمفسر والمثقف، وكانت لهم أدوار تنظيمة كبيرة على صعيد تشكيل مسارات الحزب السياسية وادارة آلية صراعه مع نظام صدام.

لقد كانت ملامح المنهج الدعوي ثمرة تلاقح فكرين إسلاميين اصيلين، فكر السيد الشهيد الصدر الذي وفق بين الاتساق مع الخط الشيعي التقليدي والانفتاح على المذهب الإسلامية الأخرى من خلال الاستدلال بآية الشورى فيما يتعلق بالحكم، وهناك من يرى انه تراجع عن ذلك الاستدلال، وان كنت اميل الى انه لم يتراجع وانما آثر عدم المواجهة، لان الاثمان ستكون باهظة، خاصة وان هذا الامر مطروح منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه آله وسلم، فلا يعقل ان الشهيد الصدر لم يطلع على مجمل الخلاف حوله، فانه في استدلاله باية الشورى بدا كأنه يسعى الى فتح كوة لعبور الطرح الشيعي الى الساحة الإسلامية العامة، فقد ميز بين الولاية والحكم ولم حصر منهج الولاية بالحكم، والذي أدى الى اتهام كل الخلفاء الراشدين باغتصاب الحكم، وهذا موقف لم تتلقفه الساحة السنية الغارقة في تطلعها السياسي الذي اوصلها في بعض المقاطع الزمنية الى تبني الفكر الطائفي، وقد كانت محنة السيد الشهيد الصدر تتركز مع مقارعته لنظام تأصل الطغيان فيه حتى النخاع، نظام مخادع ماكر جهد على توظيف الورقة الطائفية في استقطاب السنة واستعدائهم على الشيعة، فكان على الرغم من كل تبجحه بالحرية يزيد على طائفية العثمانيين التي أرادوا من خلالها قطع طريق الصفويين في العبور الى ضفاف الإسلام الأخرى، وقابلهم الصفويون بطائفية مثلها، وقد كان مآل محنة الشهيد الصدر هذه استشهاده واخته الفاضلة بطريقة ماسوية مؤلمة، لكنه ترك تراثا خصبا وافرا، بقي كما هو لم يطور ولم يبن عليه، فما النتاج بعده الا خواطر ومقاطع سير وذكريات لا يمكن ان تؤسس لحراك إسلامي تغييري مثل ذلك الحراك الذي كان الشهيد يسعى الى تحقيقه، فبعد استشهاد السيد الصدر لم يلمع مفكر دعوي ذو رؤية شمولية، اما تجربة الدعوة في الحكم فانطلقت بشكل جيد الا انها تراجعت وتوقفت فيما بعد، لانها عندما انطلقت كانت تستحضر في اذهان العراقيين موقف الدعوة الصلب والمستقيم إسلاميا في الصراع مع نظام مجرم، ولكن الأخطاء وكيد الخصوم غير النزيه أدى الى تهميش دور الدعوة، وهو الان يقترب من الاجهاز عليها.

ان تناول تاريخ حزب الدعوة يتطلب التوقف عند مرجعية السيد الحكيم رحمه الله في ما قدمته من دعم كبير لتوجهات السيد الشهيد الصدر، حتى اننا لنقرا في رسالة السيد الحكيم للسيد الصدر فيما يتعلق بترك العمل الحزبي الدعوي محاولة لابعاد السيد الصدر عن مرمى الجماعات التي تتربص به الدوائر من المحافظين الشيعة ومن البعثيين الذين التقت مصالحهم على اجهاض مشروع الصدر الحركي، لانه مشروع إسلامي قد يلتقي عليه العراقيون على اختلاف مذهبهم، وقد نفذ السيد الصدر امر السيد الحكيم فقطع علاقته التنظيمية، ولكنه لم يقطع ولا لحظة واحدة علاقته الفكرية والفقهية بحزب الدعوة، بل انني اجد في رسالة السيد الحكيم الى السيد الصدر ما يوحي بأن السيد الحكيم كان يتطلع الى السيد الصدر المرجع الذي يستطيع ان يقود الدعوة فكريا من دون ان يحسب عليها تنظيميا، وان في هذا تحقيق لمصلحة الدعوة كحزب ومصلحة السيد الصدر كمرجع.

اما بالنسبة الى الشهيد محمد هادي السبيتي فكان الامر مختلفا، لكونه مفكرا إسلاميا من خارج الحوزة، وذا علاقات حركية واسعة مع طيف إسلامي عريض يمتد من حركة الاخوان المسلمين الى حزب التحرير الإسلامي الى حزب الدعوة الإسلامي، وكان لهذه العلاقات اثر في تشكل فكر السبيتي الدعوي الذي اوصله الى تبني فكرة اسلام بلا مذاهب، وان كنت اخالفه في هذه لان المذهب بحد ذاتها إيجابية لانها توجه إسلامي يقوم على تنوع خيارات المسلم لرفع الحرج، وتلك قاعدة إسلامية اصيلة، ولتجنب التجرؤ على مخالفة التكاليف التي تؤدي غالبا الى الانحراف، فوجود خيارات سهلة يعصم المسلم عن مخالفتها، الا ان الشهيد السبيتي كان يخشى من ان تتحول المذاهب الى طوائف، لا هم لها سوى توظيف الدين في خدمة السياسة، وهو محق في خشيته هذه، فالمذهب مفهوم إسلامي والطائفية مفهوم لا ديني، هدم المسيحية واليهودية وهو يسعى اليوم لهدم الإسلام، ولكنه سيفشل ان شاء الله تعالى.

وعليه فان حزب الدعوة الإسلامية في وجدان السيد الشهيد الصدر والشهيد السبيتي وكل المؤسسين هو حراك إسلامي عابر للطوائف يلتقي مع الحراك الإسلامي العام على ثوابت تدعم بنيان الإسلام، وتجعل من الخصوصيات المذهبية تفاصيل على خط إسلامي عام، ومن الطبيعي ان خطر هكذا تنظيم من وجهة نظر خصوم الامة واعدائها جسيم، فجدت الحرب للقضاء عليه، وهي حرب التقت حولها مصالح اطراف سنية طائفية ما زالت تعيش بعقلية عثمانية، ومصالح اطراف شيعية، اما انها تجد في حزب الدعوة منافسا سياسيا قويا تقتضي مصالحها تحجيم دوره او الغائه، او اطراف شيعية طائفية ما زالت تعيش بعقلية صفوية، لا ادخل في توصيفها لان ذلك يطول، ولكنني احيل القارئ الكريم الى تصوره الخاص لهذه الأطراف، مع العلم ان ايران اليوم إسلامية وليست صفوية على الاطلاق، والمحرك لكل هذا الهجوم على حزب الدعوة هم خصوم الامة الصليبيون والصهاينة، الذي لا يريدون وجودا لعمل إسلامي مؤسسي كان له مشروع وطني عام، نجده بوضوح في كتابات الشهيد الصدر الحركية، وله مسعى واضح في هدم جدار الطائفية بين السنة والشيعة، ولا يضرهم ان يكون للشيعة حراك سياسي عائلي يقوم على الوراثة، او يقوم على مناهج سياسية تلفيقية لا تستطيع ان تبلور مشرعا وطنيا يلتقي عليه اليمين الوطني واليسار الوطني، ولكنها تستطيع تمرر مناهج انتخابية تلفيقية يلتقي عليها يمين ويسار هزيلان فكريا، ولا اظنهما فاعلين سياسيا، وسوف تشهد الأيام على ذلك.

طبعا هذا لا يعني انني ادافع عن تجربة الدعاة في الحكم، وان كنت احترم كثيرا منهم واعتز به، الا ان بعضهم قد اقترف آثام يترفع عنها حتى بائعي صكوك الغفران، ولا ادري كيف خدع أولئك السراق واللصوص المنحرفون الدعوة والدعاة، ولكنني أقول ان افول حزب الدعوة خسارة للعراق بكل تنوعه الديني والمذهبي، لانه نهاية لحراك إسلامي مؤسسي وبداية لاسلام عائلي وراثي، شيعي او سني، في العراق على اقل تقدير، فحزب الدعوة الإسلامية بوصفه فكرا حركيا اسلاميا مؤسسيا اصيلا، يحتاجه العراقيون كلهم.