في عام 1957 أسس المرحوم الشاعر محمد مهدي الجواهري الإتحادَ العام للأدباء والكُتّاب العراقيين ، فجعل منه بيتاً لأدباء العراق كافة في ذلك الزمن العصيب من تاريخ العراق السياسي المعاصر .. لم يستبعد عنه أيَّ أديبٍ من الشعراء أو الكُتّاب العراقيين ، وبقيت تلك السُّنَّةُ الحَسَنَةُ سُنَّةً حَسَنَةً متوارثة منذ ذلك العام حتى هذا العام ، رغم محاولات الحكومات الداعية لتسييسه ، والذي هو ربّما أصطبغ بالتسييس إبّانَ حكومة صدّام تحديداً ، إلاّ أنَّ ذلك لم يمنع ولم يصادر توافد الأدباء العراقيين لكي ينتموا إليه وفقاً للضوابط التي سار عليها من حيث المعايير الأدبية لا السياسية ، فكان يحقُّ لكلِّ من ينشر أعماله الأدبية في عشر صحف أو مجلات أن يتقدم بطلب هوية الانتساب إليه ، أو أن يكونَ لديهِ مؤلَّفٌ أدبيٌّ منشور .
والحالة هذه ؛ فقد عانى هذا الإتحاد العريق ما عاناه خلال مرحلة التغيير السياسي الراهنة ، ما جعله محارباً من قبل الكثير من الأوساط والتوجهات ، على الصعيدين العربي والمحلي .. فمرةً توصمه الاتحادات العربية بمحاباة الاحتلال ، ومرّةً يتهمه الوضع السياسي الجديد بالموالات و التطبيل للنظام السابق ، وهكذا أمسى الإتحادُ يعيش أزمة خانقة ً لم يمرّْ بها في أيٍّ من مراحل التقلبات السياسية والانقلابات العسكرية التي حصلت في العراق منذ تأسيسه .
اليومَ ؛ يُقْبِلُ الإتحادُ العام للأدباء و الكُتّاب العراقيين على مرحلة إنتخابية جديدة .. جديرة بالانتقاء والاختيار اللائق بهذا الصرح الأدبي العريق ، وهو يعبق بأنفاس الجواهري الزاكية الذي كان وما يزال شعره يعبِّرُ عن مشاعر الوطن في مختلف المحن والإحن ، حتى جاءت بحجم حجمه الذي ملأ الآفاق أقواسَ قزحٍ طوّقت العالم بأضوائها الملونة المحببة لكلِّ العيون.
أقول ؛ هذا الإتحاد الذي آوى بالأمس أعمدةً من الشعر العراقي الفصيح ، حريٌّ به أنْ يبقى منزّهاً عن التسييس .. ما أُكْرِهَ على هذا ؛ لأنَّ الشعراء الذين صدحوا للظالم بمعنى الرياضة و التباري أو التكسب الصعلوكي هم الشعراء الذين صدحوا ويصدحون للحقِّ على مر التاريخ ؛ وهذا هو (الفرزدق) الشاعر الكبير الذي عاش على فتات الأمويين ، رأيناه كيف قد تجلّت حقيقته في الوقفة البطولية العصماء بوجه (هشام بن عبد الملك) عندما رأى فيه نيلاً من مكانة الإمام علي بن الحسين(ع) .. بحيث نسيَ كلَّ عطاءات الظالمين وأذابَ نفسه في الحقِّ ، بكلَّ ما
وهبه الله تعالى من شاعريةٍ بتلكم القصيدة الخالدة التي سُجِنَ بسببها وهو شاعرُ البلاط . وها هو (المتنبي العظيم) في قصيدته التي قالها في (كافور الأخشيدي) وهو الذي قال ما قال فيه من مديح ، وها هو (الجواهري الكبير) في قصيدته التي قالها بحق الإمام الحسين(ع) وهو الذي قال ما قاله بحق الملوك و الرُّؤسَاء ، وها هو(عبد الرزاق عبد الواحد) في قصائده التي قالها بحق الحسين(ع) وهو الذي قال ما قال في (صدّام). ولعلّي أراهم جميعاً وأراني ما قاله الشاعرُ الفيلسوفُ (أبو العلاء المعريُّ) في مقدمته لسقط الزند .. بأنه لم يمدح الزعماء والشعراء طمعاً بالمال ، ولكن ذلك على معنى الرياضة .
ومهما يكن من أمر ؛ فالشاعر يُنظر إليه كشاعريةٍ أكثر مما يؤاخذ على ما قال من مضمون ، لأنَّ المضمونَ مرحليُّ السَّـردِ والنظمَ دائمُ النقد .
من هنا ؛ ونحن نرى هذه الأضرحة المشيدة لأكابر شعراء الأمم ، وهي ترتفع بالخلود في مناطقَ كثيرة من العالم .. يرتادها السيّاح و المواطنون .. يستلهمون منها ما كان في ذلك الشاعر من مشاعر ، وهم يتطلعون في دواوينِهُ المُبْهِرَةِ بولعٍ وشغف (بغضِّ النظرِ عن ما قال بمن) .. المهم لديهم قدرته على صياغة الصّورة الشّعرية بوجد لم يرقَ إليه الآخرون .. بما تكلل بالغار الأدبي وحليِّ الجمال الأخّاذ والبلاغة واللغة العالية .
وأقولُ أيضاً ؛ إنَّ الدولة الحمدانية كانت دولةً مختلفةً عن الدولة العباسية في منهجها ومذهبها الإسلامي الرافض ، حتى آلَ الأمرُ بها إلى ما آلَ .. للحَدِّ الذي بُقِرَتْ فيه بطونُ الحوامل لكي لا يدلنَ علويّاً في الشام ، وهي الدولة الحمدانية التي كان (المتنبي) يعظّم منها شأن حاكمها (سيف الدولة) ، دون أن يُنالَ من قدر (المتنبي) الأدبي والتاريخي على أيدي العباسيين ومن تلاهم . وهذا هو (أحمد شوقي) الذي مدح (الخديوي إسماعيل) وأبعد عن وطنه وعاد ليكون شاعرَ الشعب وأميراً لشعراء عصره بكل إنصاف ، وهكذا هي أخلاقُ القادة الكبار المترفعين عن الصغائر ، الذين مهما نالوا من السياسيين فلن ينالوا من الأدباء .
يحزّني الألمُ ؛ وأنا أرى الصُّروحَ الشامخة للشعراء الفرس (حافظ الشيرازي) و (سعدي) و (الخيّام) في إيران ، وأرى صرح الشاعر الفرنسي (فولتير) في باريس ، وأرى ضريح (شوقي) في مصر ، وأرى ضريحَ (المتنبي) ، بينما لا أرى أضرحة شعرائنا الكبار .. (الجواهري) و (مصطفى جمال الدين) و (عبدالرزاق عبدالواحد) هنا في وطنهم العراق !!!؟