23 ديسمبر، 2024 8:02 ص

عاد خالد متعبا مهموما الى بيته, ذلك البيت الذي يمكن وصفه بالخربة! فهو مجرد اسم فقط, بجدرانه المتهالكة وأبوابه المكسرة, وشباك واحد كبير مكسر الزجاج, وتم وضع قطع كارتون بدل بعض الزجاجات, جلس خالد على الأرض رافعا بصره نحو سقف البيت, يفكر بعمق بهول المصيبة التي نزلت على رأسه, جاء أطفاله يتراكضون نحوه وارتموا في حظنه, نظر إليهم بعطف الأبوة ودمعت عيناه.

أقبلت زوجته وأمه إليه يتساءلن, عن سر عودته باكرا من العمل فقالت أمه.
– أهلا ابني الحبيب خالد, لكن هل من أمر ما لعودتك المبكرة؟
نظر لامه طويلا, وهو لا يعرف ما يقول لها, فالكلمات قد تبعثرت في صحراء الوقع, ولم يصدر منه كلمة واحدة.

قلقت زوجته وأمسكته من يده, تتحسس حرارته, وقالت له:
– يبدو عليك التعب والحزن! فهل أنت مريض هل عاودك الصداع؟ ام هنالك خبر أزعجك؟

تنهد خالد طويلا, ثم بدد الصمت, وقال :
– لقد تم إغلاق المعمل الذي اعمل به, حيث قرر صاحب المعمل غلقه نهائياً, لأنه لا يحقق مكاسب كبيرة, وتم تسريح كل العمال, أماه أنا ألان عاطل عن العمل, أنها مصيبة كبرى قد حلت علينا, أفكر في الأطفال والعائلة وفي أيجار البيت وفي التزاماتنا جميعا, لا اعرف ماذا افعل, تعلمون كم هي حياتنا متعبة بل جحيم لا يطاق, قد صنعه لنا ساستنا, ليتم سحقنا كل يوم, أحيانا أتساءل وأقول أن الموتى أفضل حالا منا! فهم ارتاحوا من هموم العراق وحكوماته الفاسدة وساسته الأنذال, ونحن مازلنا نعيش جحيم حكمهم في العراق.

عم الحزن المكان وتكدر حال زوجته وأمه, فالحدث مصيبة حقيقية لكل العائلة والتي تعيش على ما يتحصله خالد من أجور, فبادرت أمه للتخفيف عن ابنها ببعض كلمات التشجيع, فقالت:
– يا بني قل يا الله عسى أن تفرج, بل قد يكون هذا الأمر لصالحك, فأحيانا نتحسر على أشياء نفقدها, لكن نجد الخير في الجديد, غدا اخرج للبحث عن عمل وأنت رجل شجاع ومجتهد في العمل, وستجد أفضل من عمالك بأذن الله.

نظر خالد الى أمه ببعض الأمل فكان كلامها مشجعا له, نام خالد تلك الليلة من دون عشاء, فروحه تعتصر آلما.

في صباح اليوم التالي خرج خالد للبحث عن عمل, وذهب أولا لمعامل الحلويات في المنطقة الصناعية, لكنه وحتى وقت انتصاف النهار ولم يجد اي فرصة, فكل المعامل تريد أن تسرح بعض عمالها, بسبب ضعف الإيرادات, بعد الظهر عاد للبيت منكسرا فقط استطاع شراء الخبر والبصل,

وما أن دخل البيت حتى هرول الأطفال نحو وتزاحمت طلباتهم, فقالت البنت الصغرى:
– بابا أريد ” نستلة”.
وقال ابنه الأكبر:
– بابا, المعلمة تريد ثلاث ألاف لتزيين الصف.
وقال الطفل الأوسط:
– بابا أريد قميص جديد, فقميصي يضحك عليه الأطفال ويقولون قديم.

صمت خالد والحسرات تذبحه من الوريد, وذهب لغرفة النوم وغطى رأسه بوسادة, كي ينفصل عن العالم, ونام ليهرب من الطلبات والتساؤلات.
بعد ساعتين جاءت زوجته مسرعة نحوه, وهي تحمل خبر غير سار, فالخبر لا ينتظر التأجيل:

– خالد, خالد, يا خالد, اصح من النوم, فصاحب البيت ينتظرك في الباب, وهو يريد الإيجار.

نهض خالد فزعا مرعوبا, كان مترقبا هذه اللحظة بخوف شديد, أسرع لرش وجهه بالماء بكاس ماء بارد, عسى أن يصحوا, وأسرع ليستقبل صاحب البيت:
– أهلا أبو تقى تفضل, تفضل أرجوك.
– لا أهلا ولا سهلا, أريد الإيجار فقط.

احتار خالد ماذا يقول لصاحب البيت البخيل, وكيف يمكن أن يقنعه بتأجيل الدفع أسبوع أو اثنين, لكن يجب ان يقول شيئا:
– يا أبو تقى اصبر عليه كم يوم, وان شاء الله سأعطيك الإيجار.
غضب أبو تقى من كلام خالد, فانفجر غاضبا وعربد بكلمات التهديد:
– سأعطيك يومين فقط, وإذا لم تسدد كل الذي بذمتك, سأرميك بالشارع, هل فهمت, انه كلامي الأخير معك, ولن أتراجع عن كلامي.

خرج أبو تقى وأغلق الباب بعنف, وغرق خالد في دوامة من الحيرة, فمن أين يأتي بمبلغ الإيجار وحتى المتأخر منذ ثلاث أشهر؟ لا حل الا الديون الجديدة, دعم الأقارب ألان ضروري, خرج خالد مسرعا نحو خاله أبو علي, وهو ميسور الحال جدا, وطلب منه ستمائة ألف دينار ليسدد بها الإيجار, وحدثه عن تهديده برميه بالشارع, فقال خاله الميسور:
– ابن اختي خالد, الحقيقة أنا ألان لا املك شي, فكل أموالي في مناقصة جديدة, واشتريت بيت بل أنا “مديون” مثلك تماما,ارجوا أن تعذرني يا خالد.
انزعج خالد جدا من كلام خاله, بل شعر بصدمة وخيبة أمل كبيرة, لكن قرر أن يحاول مرة أخرى استعطاف خاله, فقال:
– أرجوك يا خالي ساعدني, أنت أملي الوحيد, وأنت معروف بكثرة زياراتك لأهل البيت وعلاقتك بأهل الدين, ولولا ذلك لما أتيتك, وأنا اعرف يقينا انك قبل يومين استلمت ثمانون مليون دينار, هكذا قال لي ابنك علي, فلا تبخل علي, وأنا ابن أختك وبيدك طوق نجاتي.

غضب الخال من كلام خالد الأخير, استشعر التكذيب والطعن في تدينه, فوقف منزعجا وعينيه تشتعلان نارا وقال لخالد:
– هل تكذبني, وهل تشير لضعف تديني مع كثرة عبادتي, هل تربط الصدق والتدين بمساعدتك, أنا أقول لك ليس عندي دينار, وأنت تقول لي عندك ثمانون مليون دينار, أقول لك أني متعسر مثلك, وأنت تقول لي كثرة الزيارات الدينية, تبا لك من ابن أخت عاق, هيا اخرج من بيتي ولا تعود لي أبدا.

نهض خالد وهو يرتعش غضبا, فأحس بكبريائه قد جرح, فقال:
– تبا لك ولأموالك القذرة, بئس الخال أنت.

خرج خالد منزعجا متكدرا حزينا يشعر أن الحياة تسحقه, وانه نكرة, الم شديد يعتصر في صدره, وشعور قاس بجرح الكرامة, في تلك اللحظة تمنى أن يموت وينهي هذا الحزن والهم, لم يرجع للبيت بل ذهب للمقهى, وبقي هناك حتى منتصف الليل كان غارقا في التفكير ماذا يفعل غدا.
فجأة جاء عمر الواوي وهو لص قديم من أهل الحي, عندما شاهد خالد تفاجئ فخالد ليس من رواد المقاهي, وليس من أهل السهر, فسلم عليه وجلس لجانبه وطلب شاي له ولخالد, وقال له :
– كان أبيك صديقي المقرب, وكنت أحملك على ظهري عندما كنت صغيرا, يا خالد أزعجني أن أراك حزينا مهموما, فقل لي ما بك عسى الله أن يفرج عنك.
نظر خالد طويلا في عيني الواوي, فهو يعرفه لص لكن له مواقف إنسانية كل الحي يتحدث بها, عندها قرر أن يفتح صندوق سره للواوي, فقال:
– الحقيقة يا عم أني في مشكلة كبيرة, فصاحب البيت يهددني بالطرد, او دفع الإيجار وكل ما بذمتي, وأنا ألان لا املك دينار, لأنه تم تسريحي من عملي ولا اعرف كيف أسدد ما بذمتي لهذا الجشع أبو تقى, حاولت الاستدانة من خالي المترف, لكن تكبر علي وامتنع, ألان لا احد يقبل إقراضي المال.

تبسم عمر الواوي, فقد لمعت في رأسه فكرة, فقال لخالد:
– سأعطيك المبلغ , وأوفر لك مبلغ أسبوعي, تسدد به كل احتياجاتك بل يزيد عليها, لكن بشرط واحد!
فقال خالد بلهفة وفرحة وتعجب:
– قال يا عم ما هو شرطك, الله ييسر عليك كل أحوالك؟
فأجابه الواوي بجملة مبهمة:
– أن تعمل معي.
– هل تريدني أن أكون لصاً..كلا وألف كلا.
– اسمعني جيد لا أريدك لصا, بل فقط تجمع لي معلومات, وتقوم بواجبات أدارية, فنحن ألان شركة وليس عصابة للسرقة.

بعد أيام, استطاع خالد من دفع الإيجار وكل ما بذمته لأبي تقى, وتمكن من تسديد مطالب المدارس, واستطاع شراء الدواء الأصلي لامه وزوجته, ولأول مرة امتلأت الثلاجة باللحم والدجاج والسمك, لقد أصبح خالد لصا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
● ثمرة القصة

دعونا نتساءل لماذا أصبح العامل خالد لصا, ما هي الأسباب الموجبة لهذا التحول الخطير في حياة الإنسان “خالد” ؟
الجواب: يمكن تفصيل الأمر على أربع نقاط مهمة وهي تتكرر مع الكثير:

● الجانب الحكومي
كل مصائب العراقيين تنبع من فشل العصابة الحاكمة في الحكم, حيث تسببت الأخطاء الجسيمة في طريقة الحكم, للتفريط بحقوق الناس, فيمكن عد مشكلة السكن من صميم مسؤوليات الحكومات المتعاقبة, والتي يمكن حلها في سنتين لو كان هنالك أرادة حكومية حقيقية, وبمبلغ لا يصل لما صرفته العصابة الحاكمة على وهم “حل مشكلة السكن”, أننا اليوم أمام محنة حقيقية بوجود حلف لأحزاب مهمتها تقاسم أموال الخزينة, فهذا هو السبب الذي يجعلها تستمر بالعمل السياسي. مصيبة خالد سببها التقصير الحكومي في مشكلة السكن, بالاضافة لتقصيرها في حماية العمال, وفشلها في توفير فرص عمل, وإهمالها لقضية الحصة التموينية التي هي أمر مصيري لفئات واسعة من الشعب, وفشلها في توفير العلاج للمرضى وخصوصا كبار السن.

● الجانب الاجتماعي
المجتمع العراقي يعاني كثيرا نتيجة تراكمات العقود الماضية, والحروب المتكررة, وفشل حلف الأحزاب في حل الأزمات, مما جعل المجتمع يتحول الى غابة القوي يأكل الضعف, فان لم تكن ذئبا أكلتك السباع, هذا الواقع البائس جعل المواطن أمام خيارات قليلة, فأما أن يكون جزء من مجتمع الغابة أو أن يسحق يوميا, وأهملت الحكومة مسالة أصلاح حال المجتمع, وتحول دور المنابر ومنظمات المجتمع الى دور قشري الى يؤثر في أصلاح الحال.
اليوم تغيب عن مجتمعنا مسالة التكافل والتعاون والإيثار والمساعدة, الا في حدود النفاق الاجتماعي والغايات الباطنة, مما جعل “خالد” يحبط وتضيع أمله في القشة الاخيرة للنجاة وهو خاله “أبو علي”.
أن وحش الفساد المرتبط بنظام الحكم افسد حياتنا وكان السبب الأكبر في الخراب الاجتماعي, ولو أردنا أن نعود نحتاج لأمرين الأول إعادة إحياء القانون, كي يضمحل سبب نشوء الغابة, والأمر الثاني هو أعداد العدة لرد هجمة العولمة, التي جعلت المجتمع ينتكس.

فكان الفشل الحكومي والانتكاس المجتمعي هما علة تحول خالد الى مجرد لص.