“مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيب”
في معظم دول العالم التي تنعم بالازدهار والاسترخاء، تفتخر حكوماتها بالأجواء النموذجية وسبل العيش الكريم اللاتي توفرها لأسرها من مأكل وملبس ومسكن ومواصلات وأمان ومستقبل زاهر وخدمات إنسانية غاية في الإعتناء والإكتراث، فتلك المرتكزات مجتمعة تجعل من الإنسان قيمة عليا في المجتمع الحضاري، وستجعل منه مواطن في حالة الاستعداد للتفاعل التام مع مجتمعه ومع دولته الأم، ووطني يتمتع بروح وطنية عالية لا يشوبها غبار، الا في العراق ويكأنه غابة أو محمية، لا يرتع فيها ولا يسود إلا السباع والأسود والذئاب والضباع، والعائلة العراقية فيه واهنة كبيت العنكبوت، فعندما تخرج من حفرة التداعيات من بعد فض حالة التورية والهروب للامام من الواقع المرير تقع في بئر عميق من المشاكل والانتكاسات على قدر تعلق الأمر بمجريات الأحداث السياسية والإقتصادية والحربية التي ابتلي بها المجتمع، وقلما يسلم بيت وأسرة من الإكتواء بنار الفتن ومجريات الأحداث التي سادت البلد.
وما أحدث تغييرا جذريا في بنية العائلة العراقية أسباب عديدة، منها ما كان سببا لتدهور الأسرة وإنتكاساتها ككثرة الأرامل والثكالى والمطلقات واليتامى، وكثرة العاطلين عن العمل وإستشراء البطالة، وغياب الخدمات، وتفاوت مستوى دخل العوائل، وبروز حالات الطبقية والاقطاع، وتنامي حالات الفقر والعوز والمرض والجهل، وانتشار الأوبئة والآفات، وكل ذلك هو كنتيجة وخيمة لتلك الأحداث المزمنة والحروب المترادفة -وعلى سبيل المثال فقد وصل عدد الأرامل إلى نحو مليوني أرملة، إضافة إلى عدد أكبر من النساء اللواتي يتولين بإعالة أسرهن- ومنها ما كان سببا لإضمحلال الروح الوطنية في الجو الأسري بسبب تردي الوضع المالي والأمني وغياب الخدمات الانسانية وتفشي الارهاب والفساد، وتعثر نظام الحكم في ادارة دفة الأمور بما يشبه التيار العكسي لتطلعات العائلة العراقية.
ثم وعلى سبيل المثال، لا تمر مناسبة من مناسبات الذكرى السنوية ليوم المرأة العالمي على النساء العراقيات، إلا وتمسي عليهن كمناسبة لتذكيرهن بالمعاناة التي تعصف ببلدهن وبمجتمعهن وبأسرهن، وتشحذ هممهن للإستنفار بالظروف القاسية التي يعاني منها البلد من قسوة المعارك والحروب والانفجارات والاضطرابات والانقسامات، وبالتالي فإن تلك التداعيات ستنعكس على الأسرة العراقية وسعادتها وعلى طبيعة أمنها ومعيشتها وأدائها ومستقبل أبناءها، وستعاني الكثير من ضنك العيش والأحوال القاسية في ظل ظروف هذا البلد الجريح المنكوب بسيادته وأمنه وبتبديد ثرواته الإقتصادية والبشرية.
ومادمنا نخوض في معاناة المرأة بإعتبارها النموذج المفصلي في العائلة العراقية، وبإعتبارها القطب المحوري المؤثر فيها، إذ نقول في هذا الصدد ويقول معنا العالم: “إن أكثر من مليون ومئتي ألف امرأة عراقية شردن منذ بداية أعمال العنف في كانون الثاني “يناير” العام الماضي وفقا لبيان بعثة الأمم المتحدة في العراق، وأن نسبة النساء والفتيات من مجمل موجات النزوح تصل إلى واحد وخمسين في المائة، وبحسب بعثة الامم المتحدة فإن النساء والفتيات وخصوصا المعرضات لسوء المعاملة يمثلن الهدف الأول للاعتداءات التي تشمل انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، تزامنا مع انبثاق أحداث العنف الأخيرة، هي معاناة تراكمت مع توالي الحروب والأزمات التي أصابت بلدهن”.
هذا هو واقع العائلة العراقية المرير طوال خمس من العقود المنصرمة، فالنكبات تتوالى عليها نكبة تلو نكبة والغصص تتناوب عليها غصة بعد غصة، ولا يمر يوم أو بضع يوم عليها إلا ويحمل معه كارثة أو نكبة أو مأساة إنسانية، أو أزمة أمنية ومالية، وعندما نذكر مصطلح “العائلة” فهو يعني أيضا فيما يعني “المجتمع” برمته، ذلك لأن المجتمع يرمز إلى “عائلة العراق الكبيرة”، فيما تعني العائلة كمصطلح “مجتمع العراق الصغير”، كذلك ف”عندما تكون النكبة بمستوى عائلة !، فهذا لا يعني أبدا أن المجتمع سيكون في منأى من التأثر والتفاعل بمأساة تلك العائلة -التي هي أصلا تمثل وحدة بناء المجتمع والنواة الاولى في بنائه- من ناحية النتائج النفسية والعاطفية والادبية ومن كافة النواحي الانسانية”.
فالنكبات كثيرة والمصائب جمة، إذ لا يتوقع أحد مهما بلغ مستواه العلمي والاجتماعي أن يصل الحال بالمرأة العراقية أن تباع ك”قينة” في سوق النخاسة لبيع الجواري في القرن الحادي والعشرين، وهذه هي النكبة العظمى والطامة الكبرى، فصارت العائلة ممن وقعت تحت وطأة هذه النكبة تتربع على المقعد الأول من سلم المآسي والنكبات قياسا بمن إفترشن الأرض على الارصفة كبساط لهن ومأوى، وقياسا بمن هجرن من موطنهن، ونزحن من مساكنهن إلى مناطق أخرى.
ونختم بما اطلت به علينا “قناة بلادي الفضائية” من خلال برنامجها “قاسي الكلام” بواحدة من النكبات التي تعرضت لها العائلة العراقية، وهي عائلة السيد “أحمد هادي” وزوجه السيدة “زينب”، وهي النكبة من أكثر القصص والمآسي وجعا وايلاما والتي أدمعت معظم عيون العراقيين وأدمت قلوبهم وأثارت شفقتهم نحو هذه العائلة المنكوبة.
وحقيقة تعد قصة غرق الطفلين “حيدر” و”زينب” امام عيني أبويهما في عرض البحر بسابقة قل نظيرها في التاريخ المعاصر، وهي بحق تعتبر من “القصص العالمية التراجيدية” والتي تصلح قصتها لأن تكون سيناريو لفيلم عملاق ليراه العالم أجمع على وزن أفلام هوليود العالمية العملاقة، وكقصة انسانية لعائلة عراقية مفجوعة حاولت الفرار من جحيم الحرب والوصول إلى بلد آمن في أوروبا، خاصة إذا تعمق مخرجها بتناول مفردات مواد فصولها بالتفصيل الدقيق والتحقيق الوثيق.
يذكر أن هذه العائلة المنكوبة تتكون من أب وأم وثلاثة أبناء، هاجروا من مدينة بوردوم التركية في ليلة دجنة ظلماء إلى الساحل اليوناني من قبل المهربين الاتراك والذين كانوا يعاملونهم بشكل عنيف وقاس، وبأسعار خيالية كلفتهم بيع جميع ممتلكاتهم في العراق، من أجل عبور بحر إيجه للوصول الى بر الأمان في اليونان، وقد حال بينهم وبين وصولهم الموت، الذي فصل بينهم وبين بلوغ الهدف بعشر دقائق من الوقت حينما أغرق طفليهما”زينب وحيدر”.
وأبدت السيدة “زينب” والدة الطفلين الغريقين “زينب وحيدر” من خلال البرنامج المتلفز، عن “استغرابها من الحكومتين التركية والعراقية ووسائل الاعلام بالترحيب بوالد الطفل ‘إيلان’ ومواساته رغم أنه المسؤول عن وقوع الحادث”، مؤكدة على أن معظم الأحاديث التي صرح بها “والد إيلان” عن رحلة الموت غير صحيحة!.
وبدورنا ومن خلال هذا المنبر الشريف، ومعنا “منظمات المجتمع المدني” نناشد الحكومات المتشاطئة بتقديم مساعدات إغاثة إلى المهاجرين، والمهاجرين العالقين، والسعي لإطلاق سراح المحتجزين في دول المهجر، وإعادة من يرغب منهم بالعودة إلى العراق، وعلى الحكومة العراقية أيضا إزالة أسباب الإحباط وحالات اليأس لدى العراقيين والسعي لإزالة أسباب الهجرة وبشكل فوري وفعال، و”تخصيص راتب شهري لكل سيدة من ربات البيوت العراقيات اللواتي لا يتقاضين راتبا من الدولة -اللواتي لا يشغلن وظائف حكومية في الدولة”، كما ونطالب مجلس النواب بتخصيص جلسة لمناقشة هجرة الشباب العراقي ووضع الحلول اللازمة والناجعة، وتفادي الأسباب التي أدت إلى هذا التدهور اللافت للنظر، سيما وأن أرقام المهاجرين مخيفة وتثير القلق بسبب وجود وجبة أعداد كبيرة غير التي وصلت إلى اوروبا، تنتظر الآن في تركيا للمغادرة في وقت لاحق.
قال الإمام الصادق (ع) : “إنّ الله عزّ وجلّ يبتلي المؤمن بكلّ بليّة ، ويميته بكلّ ميتة ، ولا يبتليه بذهاب عقله ، أمَا ترى أيوب كيف سلّط الله إبليس على ماله وعلى ولده وعلى أهله ، وعلى كل شيء منه ، ولم يُسلّط على عقله ، ترك له ليوحّد الله به”.