18 ديسمبر، 2024 7:40 م

عندما تقرع كؤوس الخمر

عندما تقرع كؤوس الخمر

ولِدتُ في الثمانينات من القرن الماضي في العراق في احد احياء بغداد الشعبية ، ونشأت في عائلة متوسطة الحال ذقت معها منذ الصغر طعم الفقر و العوز ، لكني عرفت معهما حب الوطن والكرامة وعزة النفس و الاباء والصدق والامانة والاخلاص في اتقان العمل واحترام الواجب والكثير من الاخلاق التي زرعتها فينا المدرسة و العائلة و الاهل و الاقارب والاصدقاء ، كان المجتمع بالنسبة لي مدرسة كبيرة انهل منها المعرفة والسيرة الحسنة ولا اريد ان اتناول الدين في حديثي فهو منبع لكل الاخلاق الحميدة . وخلال نشأتي كنت ارى واسمع واحس بالاحداث المأساوية التي تزاحمت وتراكمت على العراق من حروب وكوارث في زمن يسعى فيه العراقيين لسد حاجاتهم البسيطة في العيش ، وقد اتيحت لي خلال عمر المراهقة ان ارى و اشاهد افلام و فيديوهات لبعض العراقيين في الخارج وهم يتناولون اقداح الخمر ويحتفلون عندما تقع كارثة تودي بحياة العراقيين في الدوائر الحكومية و الاسواق الشعبية او عند تخريب المنشئات نتيجة قصف بالطائرات او تفجير بسيارات مفخخة ، وقد جذب نظري وانتباهي الى هذه الضحكات وهذا الفرح على مصاب اهلنا في العراق وهم عراقيين ايضا . لم افهم هذه الظاهرة وسألت من حولي لكني لم احصل على اجابة ترضيني ، طبعت هذه الصورة وهذه القهقهات مع صوت قرع كؤوس الخمر في مخيلتي وعلق هذا التساؤل في نفسي مع رفضي لتقبل صور العراقيين في الخارج وهم يراقبون التلفزيون في لندن بينما يقرعون الكؤوس في فرح غامر عند كل مشهد تظهر فيه اسالة لدماء العراقيين .
كبرت وانهيت تعليمي وتخرجت من الجامعة وهممت بالدخول الى ساحات العمل وكلي تفاؤل و ثقة بالنفس لخدمة وطني و المجتمع العراقي من اجل البناء و التقدم والنهوض ، ولم يفارقني ذلك التساؤل ولم تفارق ذهني تلك الضحكات الغريبة وكنت احاول ان اصل لأجابة مقنعة في فهم هذا الشعور الغريب (كيف لعراقي في الخارج ان يتلذذ بمشاهد قتل شعبه وذل اهله في الداخل وهو عراقي) .
مضت الايام وقاربت على 2003 ووجدت ما ابحث عنه في وظيفة أبدأ بها مسرتي في الحياة العملية وما ان بدأت حتى جاءت احداث 2003 ودمر العراق بارضه و هواءه وبناه التحتية دمر بكل همجية ، قالو ان ذلك بسبب ان النظام الحاكم في العراق دكتاتوري و مارق و خطر على شعوب المنطقة ! . لم ابالي بتلك التسميات وكنت اهتم بما حولي ولكني بحثت عن فرص جديد للعمل مع الكيان و النظام الجديد ، حاولت و حاولت لكني لم افلح ثم لاحظت انقلاب و تغيير في سلوك الناس و انقسامهم في شارعنا بسبب الطائفية ، لم اهتم في باديء الامر لأني كنت مندفعا في استثمار طاقاتي الفكرية والعلمية والعملية لأثبت وجودي في المجتمع على الرغم من هذا التغيير و الانقلاب ، وكنت اضن ان هذا الانقلاب والتغييرالخلقي حالة طارئة ومؤقتة و سيزول بزوال اثار الحرب . لكني كنت مخطئا ، فبعد سنتين من محاولات تهدئة الفوضى وظهور العمائم و رجال الدين فقد فشلت محاولاتي للحصول على عمل ثابت استطيع من خلاله ان اثبت كفائتي و قدراتي ، بل على العكس فقد بدأ موسم جديد مليء بالعنف الطائفي ومفاجئات قتل عوائل بالكامل في محلتنا ثم في شارعنا و جيراننا ، عوائل بكل افرادها تقتل على الهوية الدينية بصغيرها و كبيرها و نساءها و شيوخها ، لا يمنع القتلة من سلب ارواح الأبرياء ونحن نسمع صيحات اهالي الضحايا ويقابلها صيحات القتلة هم و شعاراتهم الدينية عندما يقتلون و يذبحون باسم الدين .
وحصل الامر الذي كنت احسب له الف حساب حين طلب والدي منا ان نتهيأ للسفر و الهجرة بحثا عن الامان ، عارضت الفكرة بشدة ورفضت حتى مناقشتها وطلبت من والدي ان يتركني ويسافر اذا كان هذا قراره الاخير ، واثيرت الكثير من النقاشات واستغرق الحوار ايام واسابيع حتى حصلت الكارثة في احد الليالي عندما صحوت على اصوات طلقات نارية في المنزل ممزوجة بالضرب والتحطيم وانا اسمع صراخ والدتي و ابي واخي و اختي وهم يستنجدون بالله و الاؤلياء و الرسل ، وعندما استعدت وعيي بعد هذه اللحظات التي ضننتها حلم تحطم باب غرفتي وانهال الرصاص علي ولم تكن الا لحظة وفقدت فيها الوعي وكان اخر ما شاهدته ومضات السلاح الذي امطرني بالرصاص .
طرق سمعي صوت احاديث لم افهمها وفتحت عيني لأجد اني في المستشفى وقد ضمدت جراحي في رأسي و كتفي و ساقي ، لن اطيل وصف ما حصل في المستشفى لأني خرجت بعد اسبوع متحاملا على جراحي خوفا من ان يأتي من يريد ان يتمم ما بدأه و ينهي حياتي بعد ان قضى على افراد عائلتي بالكامل ، خرجت هاربا من المستشفى وانا مثخن بالجراح و اللألام الجسدية والنفسية والروحية .
تماثلت للشفاء وانا بعيد عن بيتي و منطقتي وقد فقدت اهلي ، حاولت ان استجمع افكاري لأعرف ما انا مقدم عليه وما كان امامي الا ما طلبه مني والدي في السفر و الهجرة والابتعاد عن هذا المجتمع وهذه البيئة المريضة بالطائفية والجهل . الهجرة والسفر الذين عارضتهما بشدة وكانا سبب خلاف و اختلاف مع اهلي وقد اكون انا من تسبب في تأخير سفر اهلي لتحل الكارثة . وقررت السفر و الهجرة ، وسافرت ، وبعد معاناة طويلة استوطنت بلد اجنبي قدم لي ما لم احضى به في وطني ، قدمو لي الحب و الاحترام والعمل ، قدمو لي خدمات قالو لي انها استحقاقك في المجتمع الجديد وان علي واجبات في احترام القانون وعدم الاعتداء على الغير و المشاركة في مسيرة الحياة بالعمل الشريف . وعشت حياتي الجديدة لكني لا زلت افكر في ما مضى من الاحداث و اتسائل عن اسبابها و مبرراتها وبدأت الافكار و الصور تتضح امامي فمن استشهدو قبل 2003 للدفاع عن امن واستقرار الوطن و المجتمع من الاعتداءات الخارجية باتو اليوم اعداء وحكم عليهم وعلى اهلهم وذويهم بالاعدام ، ولكن الاهم من هذا كله اني بدأت افهم واحس بشعور اولاءك العراقيين الذين كانو يحتفلون في لندن ايام النظام السابق بالضحك و الابتسام وطرق كؤوس الخمر وهم يشاهدون العراقيين الابرياء يقتلون وتسيل دمائهم في الشوارع ، بدأت افهم كيف يتولد هذا الشعور بالسعادة واللذه عندما تتفجر السيارات المفخخة لتحصد ارواح الابرياء من ابناء الوطن ، ولم يعد غريبا ان ترى عراقي في المهجر يبتسم و يضحك على مصاب من بقي في العراق يعاني من الظلم و الهوان والعنف الطائفي من المجرمين والفاسدين الذين استولو على الدولة بكل وظائفها. ولم يعد غريبا ان يشاهد العراقيين اخوانهم في المخيمات يستجدون ابسط وسائل العيش بعد ان دمرت مدنهم ومنازلهم ، فهذا المشهد لم يعد يعني شيئا لأحد ، ولم تعد مشاعر العراقيين تتألم على حال هؤلاء النازحين. ولم يعد غريبا على العراقيين ان تنهب الاموال العامة وثروات الوطن هم يرون الجهلة والحثالة يتعالى على المثقفين واصبحنا نرى العراقي يتبسم وهو يبحث عن الترفيه بينما جاره يعيش خلف ستائر تحميه بدلا عن جدران منزله المدمر. شعب ينعم ويتنعم بأستحقاقات يسرقها وهو يعلم انه قد سرق ما ليس من حقه . اما انا وبعد اتضاح الرؤيا فاني بقدر تعلقي بوطني الا اني سعدت بأن ابتعد عن هذه البيئة السرطانية المريضة التي حلت في العراق وهذا الجبن الشعبي في مواجهة الظالمين وهذا الاستسلام والنفاق و التملق للمجرمين و للفاسدين الذين رضو بالذل و الهوان وقد خسرو انفسهم من اجل كسب المال على حساب دينهم و وطنهم.