عندما تغرق السفينة

عندما تغرق السفينة

في بحر الحياة المتلاطم، نشبّه العائلة بسفينة تبحر مع أيام الزمن، يقودها الأب، وتساعده الأم في توازن أشرعة هذه السفينة، بينما يبقى الأبناء هم الركاب الحقيقيون الذين ينبغي حمايتهم وتوجيههم التوجيه الصحيح لحمايتهم من العبث والمتغيرات الجوية التي سوف تواجهها أثناء تلاطم أمواج بحر الحياة. ولكن يبقى السؤال المهم دوماً والذي يراود كل من يرغب في بناء عائلة مستقيمة يجمعها المحبة والحنان تحت شراع هذه السفينة الكبيرة: ماذا يحدث حين تتعطل القيادة، وتفقد البوصلة اتجاهها، وتغيب المسؤولية عن أفراد الطاقم؟ فسوف يؤدي ذلك بلا شك إلى غرق السفينة.
‏لقد أصبحنا نعيش في هذه الأيام زمناً تداخلت فيه الأولويات، واهتزت فيه منظومة القيم داخل كثير من البيوت. فالأب، الذي كان سابقاً عمود السفينة وربانها ويفرض شخصيته وهيبته على الجميع، بات في حالات كثيرة منشغلاً بجمع المال أو اللهث خلف مشاغل الحياة.، وتجده يترك عائلته دون توجيه أو تربية أو حتى حنان، وقد أصبح مجرد اسم يضاف إلى أنساب العائلة ووثائقها الرسمية. بينما تتنازل الأم، في بعض الحالات، عن دورها التربوي العظيم، وتنشغل بمواقع التواصل الاجتماعي، تتابع الموضات، وتغوص في حياة المشاهير، متناسية أن أبناءها هم أعظم مشروع وأهم مهمة.
‏ تتحدث عن عالم الموضة أكثر من حديثها عن مدارس أبنائها ومستواهم الدراسي، متناسية أن هذه الأمانة التي تحملها بحاجة إلى شخص يضحي بكل شيء من أجل مستقبل أبنائه.
‏وفي هذا المشهد، وسط عواصف الكارثة، ينشأ الأبناء في فراغ عاطفي، غير مهتمين بالقيم الأسرية ولا يحملون في داخلهم أي ترابط أسري مع تلك العائلة، ويعتبرون معيشتهم وانتماءهم شيئًا روتينيًا تقليديًا لا أكثر. فتجد بعضهم ينزلق نحو الانحراف، أو يعيش حالة من الضياع الداخلي، يبحث عن القدوة فلا يجدها، وعن الحب فلا يشعر به، وعن التوجيه الصحيح ولايجده .. فيصطدم بواقع جديد ويتقرب من أصدقاء السوء. وحين تكبر المشاكل وتصل أحيانًا إلى مراكز الشرطة والمحاكم أو إلى جلسات الفصل العشائري، يبدأ الأهل باللوم والكلام عن أسباب تافهة وهم يتساءلون: “ماذا حدث… ولماذا حدث؟”.
‏ولو عدنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا أن ما حدث هو أن السفينة كانت تغرق منذ زمن بعيد، لكن لم يُسمع صوت صراخ أحد ولم ينتبه الوالدان لضجيج ركاب السفينة.
‏ومن هنا تبدأ المشاكل العائلية التي لا يمكن أن نجد حلولاً لها، وخاصة ما نراه اليوم في مجتمعاتنا عموماً، الريفية منها والحضرية. لقد أصبح من المألوف أن نرى أبناءً لا يحترمون آباءهم، ولا يعرفون قيمة الأسرة. أبناء يرون العائلة وكأنها فندق يأوون إليه فقط للنوم والأكل، لا حوار، لا دفء، ولا اهتمام. هذه ليست ظاهرة طبيعية، بل نتيجة إهمال يشترك فيه الجميع. أين كنا في الأمس القريب عندما كان الأب والأم يحددان أوقات دخول أبنائهم للمنازل ولا يقبلون منهم أي عذر في حالة التأخر إلى منتصف الليل؟ وكانت للبنات عادات ونظم خاصة داخل الأسرة، والزيارات خارج المنزل تعتبر شبه ممنوعة خاصة في أوقات الليل.
‏ نعم، إننا اليوم نمر بعصر يختلف عما كان موجوداً في عهد الآباء والأجداد، ولكن يجب ألا نستغل ظروف العصر التكنولوجية ونبتعد بأنفسنا عن عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة، وحتى لا تغرق بنا سفينة الحياة وندفع جميعنا الثمن. وهذا ما نلاحظه عند بعض العوائل الذين أصبحوا يعيشون أنواع المآسي بسبب التصرفات الخاطئة للأبناء أو البنات.
‏وعلينا ألا نلوم الأبناء وحدهم، ونحملهم المسؤولية الكاملة عن تصرفاتهم الشخصية الطائشة، فهم في النهاية حصاد ما زرعه الكبار. فإذا غاب القدوة، وتخلّت الأم عن حضنها الدافئ، وسقط الأب في فخ الإهمال أو العنف، أو الجوانب المادية المريضة، فمن الطبيعي أن تغرق السفينة بهم جميعاً.
‏وهنا يأتي وصف الخطورة، وأخطر ما في الأمر أن البعض لا يشعر بأن السفينة بدأت تغرق، وأن العائلة أصبحت في وضع منعطف خطير لأنهم اعتادوا، كالربان الفاشل، على سماع صوت الماء وهو يتسرب ببطء إلى الأعماق… حتى تحين لحظة الانهيار الكامل وتبدأ السفينة في الغرق دون أمل نرجوه منها.
‏إننا جميعاً اليوم مطالبون بأن نوقظ أنفسنا قبل أن يفوت الأوان، ولنعِد ترتيب أدوارنا داخل سفينة العائلة، فالحياة قصيرة، والمستقبل لا يرحم، ومن لا يُمسك بالدفة جيداً اليوم، قد لا يجد غداً أي وسيلة نجاة تنقذه من الغرق.
‏ولنبدأ من أنفسنا، عزيزي القارئ، هل نحن ممسكون جيداً بدفة سفينتنا أم أننا ننتظر الغرق بصمت أسوة بغيرنا الذين لم نستفد من تجاربهم المريرة شيئاً؟
‏وهل ما زلنا نبرر أخطاء الأبناء والبنات بأنها شيء طبيعي وهل نحتاج إلى يقظة للضمير يعيد ترتيبنا إلى المسار الحقيقي؟